آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


أخبار صحـفيـة

   
الأصولية نشأة وملامح وتأثيراً  على العيش المشترك/ جريدة بلدنا

الأصولية نشأة وملامح وتأثيراً  على العيش المشترك/ جريدة بلدنا

تاريخ الإضافة: 2012/05/24 | عدد المشاهدات: 4051

نشرت جريدة "بلدنا" الصادرة في دمشق بتاريخ الخميس 24 أيار 2012 وضمن صفحة (محليات) تحقيقاً عن مستقبل السلفية في سورية تضمَّن مقالاً للدكتور الشيخ محمود عكام بعنوان: "الأصولية نشأة وملامح وتأثيراً  على العيش المشترك: الإسلامية نموذجاً"، وفيما يلي نص المقال:

الأصولية نشأة وملامح وتأثيراً  على العيش المشترك

الإسلامية نموذجاً

أولاً: التعريف:

لا شك في أن مصطلح الأصولية باعتباره مفردة من مفردات القاموس السياسي حديث وجديد وربما كان الترجمة للكلمة الفرنسية  (FONDAMENTALIM) وها نحن ساعون إلى تجلية مضمونه وتبيان ملامح تجلياته الحركية، وذكر انعكاساته على العيش المشترك المنشود وسنكون على موعد في النهاية مع تقديم رؤية اجتهادية لمقومات تعايش مشترك مستمدة من مصادر الإسلام، تحت عنوان فرعي: أنا والآخر: وهم التنافر وضرورة التعايش.

فالأصولية الإسلامية أولاً ومن أجل تحديدها: هي الجماعات الإسلامية التي ترى في الإسلام منطلقاً لعمل سياسي يهدف إلى تغيير الأوضاع في البلدان الإسلامية لصالح تطبيق الشريعة الإسلامية على سبيل الإجمال المعفى كسلاً من التفصيل بآلية الجهاد غير واضحة المعالم تنفيذاً وتحقيقاً وغاية، ويمتد التغيير ليطال المساحة اليابسة كلها من الكرة الأرضية.

ثانياً: النشأة والدوافع:

نحن أمام ثلاث أطروحات تتعلق بتفسير نشوء ظاهرة الأصولية وهي:

1- الأصولية الإسلامية ظاهرة رجعية تمثل مرحلة غريبة في مجتمع رأسمالي مريض، مجتمع ركد بسبب الأزمة الهيكلية للرأسمالية. ففشل الإقطاعية وتواصل وجود الأشكال البدائية للمجتمع الإنساني يخلقان التربة الخصبة للأصولية التي تحوّل اهتمام الإنسان من الحياتي الواقعي المشهود إلى الغيبي المثالي (الميتافيزيقي). وعندما تبدأ الطبقة العاملة في التحرك فإن هذه الأصولية تدخل متحف التاريخ.

وقد تبنّى هذا التفسير الماركسيون الذين يرون أن الأصولية كلها على اختلاف توجهاتها مزروعة ومُستَنبَتة بأيدي الإمبريالية ووكالات المخابرات الأمريكية والغربية لتعزيز استفحالها اللامشروع في الأرض المستعمرة.

2- وهذه الأطروحة تقول: إن ظاهرة الأصولية الإسلامية تعود إلى جذور تاريخية، وهي امتداد طبيعي وآلي لموروث قديم وقد عبّر عن ذلك المفكر محمّد أركون حين قال: ((الأصولية الإسلامية وليدة القرن الثالث عشر، حيث دخل المسلمون في زمن السلاجقة عصر التكرار والاجترار وإقفال باب الاجتهاد، العصر الذي قضي فيه على التعددية داخل الفكر الإسلامي نفسه وتكرست فيه ظاهرة معاداة الاتجاه الفلسفي والعقلاني)) وبناءً عليه: فالأصولية الإسلامية هي استمرار لحالة من الانغلاق وقعنا فيها ولمَّا نخرج منها.

3- والأطروحة هذه هي وجهة نظر علم الاجتماع السياسي حيث يقول إن الأصولية الإسلامية ولدت يوم ولدت ظاهرة الاستبداد والقمع والإرهاب(1) في البلدان الإسلامية والعربية، ويوم حوصرت الظاهرة الإسلامية والقوى الممثلة لها لكي تبقى خارج العملية السياسية. إن هذه الحالة من النفي والمحاصرة من جهة، والإصرار من طرف الأنظمة السياسية العربية والإسلامية على توظيف الدين الإسلامي توظيفاً (كاريكاتورياً) لتعزيز شرعيتها، ومباشرة الإرهاب والاضطهاد لكل معارض من جهة أخرى، دفعت تيارات إسلامية لارتداء جلباب الأصولية، فجوبهت حين ارتَدَتها واعتُبِرت ظاهرة انحرافية إجرامية، ووُكِل إلى الأجهزة الأمنية القمعية أمر معالجتها، ودخل بذلك المجتمع السياسي العربي الإسلامي دوامة التقاطب العنيف والتماهي مع الفعل المتطرف وردة فعله.

ثالثاً: الأصولية الإسلامية: الملامح العامة والتأثير على العيش المشترك المنشود:

لقد حددنا ملامح الأصولية الإسلامية فكانت خمسة:

الملمح الأول: الحركات الأصولية الإسلامية متفقة على ضرورة حكم الإسلام الذي يفهمونه للمجتمعات كافة عن طريق دولة تتسم وتتصف به، والمجتمعات تتحول بالحكم المذكور إلى مجتمع واحد بحكومة إسلامية واحدة، وتتحول أيضاً الأمم إلى أمة واحدة تذوب فيها كل الفروق العرقية والجغرافية وإلى أن يتحقق هذا الحلم الكبير فلتكن البداية دولة جغرافية محددة تشكل النواة لتلك الدولة العالمية الكبرى المنشودة وقد اختارت كل حركة دولتها التي نشأت فيها لتنطلق منها فالإخوان المسلمون أرادوا البداية من مصر مَحْضِن ولادتهم، والجماعة الإسلامية الباكستانية سعت للانطلاق من باكستان وهكذا... ولم نذكر كل الحركات الأصولية لأن بحثنا ينصب على الملامح دون التجليات والصيغ.

الملمح الثاني: رفع شعار العودة إلى الكتاب والسنة في شؤون الحياة كلها، حتى وإن كان المقصود التفصيلي المحدد لهذا الشعار غائباً عن ذهن دعاة هذه الحركات، والمهم أن يواجهوا بهذا الذي يرفعون ويرددون تطلعات سواهم من علمانيين أو حتى من مسلمين لكنهم غير أصوليين أو غير موافقين للأصوليين مئة بالمئة.

الملمح الثالث: المواجهة المسلحة المتسرعة مع المخالفين ديناً أو مذهباً تحت عنوان (الجهاد) الفريضة الغائبة منذ زمن غير يسير، وإذا لم يكن الجهاد هنا فأين إذاً يكون ؟! وبناءً على هذا شرعت الحركات الأصولية عبر منظّريها بكتابة المؤلفات الكثيرة الكبيرة عن هذه الفريضة، وأضحى الحديث عنها لا يغادر حلقاتهم ولا مجالسهم، ومن لم يتحدّث عن الجهاد فهو فارٌّ من الزحف وقد باء بغضب من الله.

الملمح الرابع: المفاصلة الجادة الحازمة بين المسلم والمسلم، أو بين الإسلامي وغير الإسلامي في كل ميدان من ميادين الحياة وكل مجال من مجالاتها، بدءاً من المصطلحات وانتهاءً باللباس والهيئة واللهجة، معتمدين للتدليل على ذلك على ظواهر بعض آيات من القرآن الكريم كقوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادَّ الله ورسوله)، وقوله تعالى :(فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) البقرة: ٢٥٦. والطاغوت: مَن وما سوى الأصوليين سواء أكان على دينهم أو على غير دينهم.

الملمح الخامس: لم تكن الحركات الأصولية كلها لتتفق على همٍّ واحد وعلى أولوية محددة تسعى إلى تحقيقها، بل كان لكل حركة من هاتيك الحركات الأصولية أولويتها التي عرفت بها: فالإخوان المسلمون جهدوا في السعي لاستلام السلطة واعتلاء سدة الحكم، مستندين في ذلك إلى مقولة أُثِرت في أدبيات الدين الإسلامي (إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، والحركة السلفية: أعلنت تصحيح العقيدة من الانحرافات منطلقاً أولياً لا يُتجاوز إلى سواه، فالعقيدة أساس وإذا صلحت صلح الدين كله، وإذا فسدت أو انحرفت انحرف الدين كله، وأما حزب التحرير فنادى (بالخلافة) الراشدة الإسلامية واجباً عينياً ولا اعتبار لأيٍّ من مفردات الإسلام من عبادات أو معاملات بدونه، وقد كان تهديم الخلافة على يد مصطفى كمال أتاتورك الفعلة الأشنع والضربة القاضية لهذا الإسلام، فلنُعِدها، ولا إسلام من غير خلافة تقام، ولا اعتبار للفرائض جميعها مالم تقم في ظل حكومة الخلافة.

ولا بد من أن نذكر: أن الشيعة لم تكن لتُعتَبر في نظر جلّ، بل كل الحركات الأصولية الإسلامية السنية تجلياً إسلامياً حركياً مقبولاً، وإنما يتم التعامل معهم على أساسٍ من كونهم أهون الشرين مقارنةً مع غير المسلمين، فإذا ما استتب الأمر صُفيت الحسابات معهم بأسلوب أو بآخر، وهذا ما حدث فعلاً، فقد أَمَّ إيران بعد الثورة مباشرةً وعقب الانتصار قادة الحركات الإسلامية مهنئين، ثم ما لبثوا أن انقلبوا عليها فدعوها بالمُنشقّة وبالمجوسية وقال قائلهم في كتاب كتبه تحت عنوان (وجاء دور المجوس) إنهم، أي الشيعة، قوم لا خَلاق لهم، ولا يَمتون إلى الإسلام بصلة وهكذا..

والآن: وبعد ذكر الملامح يقفز إلى الذهن سؤالٌ هام محوري مفاده: هل للأصولية الإسلامية انعكاس سلبي على العيش المشترك المنشود بين المسلمين وغير المسلمين، ولاسيما المسيحيون منهم ؟

والجواب مفهوم ملحوظ مما بين السطور، بل من السطور نفسها التي ذكرناها آنفاً.

فإذا كانت الأصولية بهذه الملامح التي أشرنا إليها ورسمناها عنيفة وإرهابية، ومَن كان كذلك فأَنّى له التفكير بعيشٍ أو تعايش مشترك مع من يخالفه ديناً أو مذهباً، بَلْهَ فكرةً، بل الويل من الأصولية لأولئك الذين يتحدثون عن عيشٍ مشترك، أو وحدة وطنية، فهم عندهم أي عند الأصوليين مارقون منافقون مهدورة دماؤهم وأعراضهم.

على أنني هنا أود الإشارة إلى جماعاتٍ تقابل الأصولية في التطرف لتذهب إلى أقصى اليسار، هذه الفئات أطلقتُ عليها مصطلح  (التمييعية) فهي تنادي بالعيش المشترك شعاراً فارغاً من غير أسس، وبالوحدة الوطنية كلاماً تسويقياً دون تأصيل، هَمُّها منافعها الشخصية ومبتغاها جولات ترفيهية ولعبٌ بعواطف بني الإنسان، وما مثلهم إلا كالذين وصفهم الله عزّ وجل في القرآن الكريم بقوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون . الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) البقرة: ١٤ - ١٥.

- ولذا فنحن نطالب دعاة العيش المشترك أن يؤسسوا أهدافهم ومطاليبهم ومبتغاهم على معطيات ثابتة مستنبطة من أديانهم أو من مبادئهم أو من منطلقات أحزابهم، وكفانا مجاملات وسَّعت الفجوة وعمّقت الهوّة، فلم تحقق غاية ولم ترسم سلوكاً. وها أنذا أناشد أرباب الديانات التوحيدية، وأهل المبادئ الأرضية أن يعمل كلٌ منهم على استلهام مبادئ العيش المشترك من مرجعه الفكري ومصدره المعتمد ويقدمه للآخرين ليصار إلى صياغة المشتركات بين جميع هؤلاء في دستور نطلق عليه: "الدستور العام للعيش المشترك".

وتلبية مني لندائي فقد جعلت الفقرة الأخيرة من هذه المحاضرة أو البحث تحت عنوان: (أنا والآخر: وهم التنافر وضرورة التعايش) وإليكم... وإنا من الآخرين أمثالنا لإنتاجهم الجاد في هذا الميدان لمنتظرون.

 

رابعاً: أنا والآخر وهم التنافر وضرورة التعايش:

 

1- مقدمة:

من المعترِف، ومن المعترَف به، من سار في خط الاعتراف بالآخر انطلق من الاعتراف بنفسه ومن رفض الاعتراف بالآخر انطلق من رفضه نفسه، فأنا المعترِف تارة، والمعترَف به تارة أخرى وكلانا نتناوب ونتداول، فلم أنا (أنا) على الدوام ؟ ولمَ أنت الآخر على الدوام ؟! ولم أنت (أنت) باستمرار ولم أنا (الآخر) أبداً ؟

لنعد إلى البداية: لقد سبقني إلى الوجود كثيرٌ من الناس فكنتُ بالنسبة إليهم (متأخراً) وسبقتُ كثيرين فكانوا بالنسبة إلي (آخرون) متأخرين، وهكذا تتتابع السلسلة.

فإن تحدثنا عما سوى (الوجود) فتطرقنا إلى (الدين) فقبلي كثيرون يدينون بنفس الدين الذي أدين، فأنا معهم (آخر) متأخر وبعدي كثيرون فهم معي (آخرون) ون عدلنا عن الوجود والدين فبحثنا في (القوة والمنعة) فالمعادلة في التناوب بين (أنا والآخر) ذاتها، فمن هم أقوى مني كثر وأنا (آخر) معهم ومن هم أضعف مني كثر وهم معي (آخرون).

حتى وإن تناولنا اعتباراتٍ أخرى وركَّبنا عليها معادلاتنا المحورية السالفة فالنتيجة واحدة، فتعالَ يا (أنا) ويا (آخر) نتناصف ونعتدل، وليأخذ كلٌ منا على سبيل التناوب تارة ساحة (الأنا) وتارة ساحة (الآخر) فسنكتشف في النهاية أن القضية لعبة مخترعة لاستهلاكنا مجاناً، ولاستثمارنا من دون مقابل، بل ولتحويلنا إلى سفسطائيين، نعيش ونلهو بالحروف الحادة الجارحة، وكان المأمول أن نعيش لنرقى بالحروف الجادة الجامعة فنلتقي على (ألف) الأمل و(باء) البهاء و(حاء) الحياء و(جيم) الجماعة وهكذا... بدلاً من أن تضيعنا ألف الأنانية وباء البطر وحاء الحنق وجيم الجهالة والجهل وهكذا...

ولنعد إلى الشرق الأوسط الذي لا يختلف في رأيي عن الشرق الأدنى ولا عن الشرق الأقصى ولا عن الغرب المقابل في شيء مما يخص المعادلة التي سجلناها أنفاً. بل على الشرق الأوسط أن يكون أنموذجاً يُحتذى في تطبيق العدل والإنصاف ومبادئ الخير والحوار وثقافة التعايش الآمن المسالم. لأن هذا الشرق هو مهد الديانات السماوية، ومنبع الحضارات الإنسانية الجادة. ومنه انطلقت معالم إنسانية قويمة واعية تعم على الشرق الأوسط أن غَدَوا ملاذاً لمن أراد الأمان وحقلاً ميدانياً لمن أراد دراسة السلام واقعا وفعلاً.

ودعونا من دين يفرق ولا يجمع، ومن حضارة تنفّر ولا تؤلف، ومن مبدأ يشرد ويهجّر ولا يؤمّن ويطمئن، ولا تحتجوا بإسرائيل المزروعة فينا زوراً وبهتاناً، فإنها امتحان ومَحَكّ لنا، وليست مشجباً لنعلق عليه تخلفنا وتفرقنا وتنابزنا بالألقاب.

ولو أننا مسلمين ومسيحيين وقوميين وعلمانيين وحتى يهوداً عملنا على أن نلتقي ونتفق ونتحد في مواجهة الباغية المعتدية إسرائيل لزالت منذ زمن، بل ولما وجدت أصلاً. فها هو الله يمتحننا بها وفيها، فهل نجتاز الامتحان بنجاح ؟ وإذا جانبنا الامتحان فلم نعمل له، صارت أخلاق إسرائيل السيئة أخلاق فئات منا تدين بديننا، وتتكلم لغتنا، فراحت تمارس علينا ما تمارسه إسرائيل علينا من عدوان وإرهاب وبغي ولعلكم عرفتم فالتطرف هو المعني والمقصود، وقد لبس ألف لَبوسٍ، واتخذ أشكالاً وأشكالاً، ولا حاجة لذكر عناوينه البراقة ولا أسمائه اللامعة التي نحسبها ظاهراً ذهباً وهي في حقيقتها حمم من نار جهنم.

تعالوا إلى كلمة سواء، إلى كلمة الخير لنكون من أهلها، ومن ثم فكلمة الشر بأهلها لن تقوى على مواجهتنا لأننا تعلمنا من ديننا أن الخير أصل، وأن الشر طارىء وعَرَضٌ وعابر، ولا يتحول إلى ماكث إلا إذا فقد الخير أنصاره أو قرر أهل الخير أن يتفرقوا بعضهم عن بعض.

والآن هما كلمتان: فإما الخير نتبناه وننتمي إليه وإما الشر نتخذه رفيقا، فما أنتم مقررون يا سكان مهد الديانات، ويا أبناء بناة الحضارات..؟!! وإنا لمنتظرون..

التعايش ضرورة إنسانية ينشدها الدين ويمليها العقل:

جاء في دستور المدينة الذي وضعه النبي محمد ص في المادة الأولى منه: (وإن اليهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم).

وهذا النص يدل على أن المسلمين واليهود يشكلون أمة بالمعنى السياسي، متنوعة الانتماء الديني لأنها تتشكل من أمتين بالمعنى العقدي(1).

وها هو الإمام علي رضي الله عنه يقول في رسالةٍ وجهها إلى واليه في مصر مالك بن الأشتر: ((أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم أو اللطف بهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق))(2).

وقد قال تعالى قبل هذا كله: (لا إكراه في الدين) البقرة: ٢٥٦. وقال: (فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر) الغاشية: ٢١ - ٢٢. وقال: (أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: ٩٩.

وهذه النصوص المنقولة عن الدين لا يغادرها العقل، ولا المنطق السليم وتفرضه الظروف الحياتية المشتركة والوطن الواحد والجغرافية المحددة. ورحم الله الإمام الباقر حين قال: ((صلاح شأن الناس التعايش))(1).

مقومات التعايش المنشود:

هما مقومان يختصران شروطاً كثيرة ومتعددة ومباحث وفيرة:

الأول: ضمان الحقوق للأطراف: (للأنا وللآخر) فحق كل طرف في المجتمع والوطن مَصون ومَرعي لا يُنتَهك ولا يُساء إليه ولا يُعتدى عليه، قال تعالى: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)البقرة: ١٩٠. وقال تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة: ٨.

وقد كتب رسول الله ص كتاباً إلى نصارى نجران هذا نصه: ((من محمد النبي رسول الله إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، على ذلك جوار الله ورسوله أبداً ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين))(2).

الثاني: الاحترام المتبادل: يبذله كل نحو الآخر، لأن الإنسان بحد ذاته وبغض النظر عن أي صفة تلحقه، مُحتَرم ومُكرَّم قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) الإسراء: ٧٠. وما هذا الاحترام إلا عهد إنساني قطعه الإنسان على نفسه في سره وإعلانه وأمام ربه، وعلى الإنسان أن يَفِي به ليكون متحققاً بإنسانيته منسجماً معها قال تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً) الإسراء: ٣٤. وأهم عهد هو عهد الإنسان مع الله ليعبده، وعهد الإنسان مع الإنسان ليحترمه، وما سوى ذلك من العهود توابع لهذين العهدين.

ولعلنا في هذا المجال نذكر أيضاً الأحلاف والمعاهدات التي عقدها رسول الله مع قبائل اليهود وتجمعات النصارى وفئات المشركين، لتكون لنا شاهداً على ما قلناه من ضرورة التعايش بين الناس المختلفين ديناً وعقيدة على أساس من احترام متبادل بينهم.

وما أروع ما قاله القرآن الكريم تأكيداً على ذلك: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة: ٨.

وفي النهاية:

هي دعوة الأنا والآخر إلى التعاون من أجل تحقيق تعايش مشترك آمن، وأمل نعيشه نبغي من أوراقه وظلاله أن يَرعَوي المُمعِنون في غيّ التفرق والتشرذم عن غيهّم. ويا أيها الناس لا تخلعوا ثوب إنسانيتكم بتطرفكم وظلمكم وعنادكم وتعنتكم، بل أبقوه عليكم واعتنوا به، وحافظوا عليه أنيقا نظيفاً حسناً، فستُسألون أمام ربكم وأجيالٍ قادمة عنه، و إلا فستنتهون إلى: (فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها) الشمس: ١٤ - ١٥.

د. محمود عكام


 

(1)عرَّفت الإرهاب والتعصب والعنف والعنصرية في ورقة قدمتها لمؤتمر علماء الدين الإسلامي والمسيحي الذي انعقد في روما بدعوة من منظمة سانت ايجييدوا الكاثوليكية الشهر العاشر 2001: فالإرهاب ممارسة اعتداء أو تهديد على آمن غير ظالم. والتعصب: اجتماع قوة على غير الحق. والعنصرية: اكتفاء فئة بنفسها لتكون وارثة الأرض وقيوميتها دون غيرها بغير وجه عدل. والعنف: تسرّع في اختيار السلاح لمواجهة المخالف. وذكرت في نفس الرسالة عبارات أرددها دائماً وقد غدت بمثابة شعار لي منها: (لسنا ضد أحد ولكننا لا نسمح لأحد أن يكون ضدنا) ومنها: (الحضارة لا تقوم على شتم الحضارات ولكنها تقوم على تحمّل شتم أشباه الحضارات).

(1) – مهدي شمس الدين، (في الاجتماع السياسي الإسلامي). ص290، بيروت 1992.

(2) – نهج البلاغة، ص117.

(1) – محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ج71/ص167. دار إحياء التراث العربي 1983.

(2) – انظر: التنوع والتعايش، حسن الصفار، دار التآخي، ط 2004، دمشق.

 

التعليقات

شاركنا بتعليق