أمَّا بعد، فيا أيُّها الإخوة المسلمون المؤمنون إن شاء الله:
عادة في درس اللغة العربية أو في التربية الاسلامية يسأل الأستاذ طلابه يقول لهم بعد أن يعرض عليه نصاً، يقول لهم: اقرأوا هذا وافهموه ثم ضاعوا لهذا النص، وهنا يشتغل الطلاب ويفكرون ويحاولون أن يفهموا أكبر قدر ممكن من فحوى النص وأبعادِه ودلالاته، فيقول هذا الطالب العنوان المناسب كذا، ويقول آخر العنوان المناسب كذا، أقول هذا وقد سئلت من قبل أحد المشتغلين في الصحابة، قال لي: ضع عنواناً مناسباً للإسلام. قلت له وأنا الذي أعيش الإسلام فكراً وسلوكاً، وأسأل الله أن يتقبل ذلك مني، قلت له وبشكل سريع: العنوان الذي أختاره للإسلام: (الرحمة) الإسلام دين الرحمة. قال لي: علل. قلت له: الإسلام أنزله الرحمن الرحيم، هذا أولاً، ثانياً: أُنزل على مَن وصفه ربه بالرحمة، فلم يقل عنه: وما أرسلناك إلا رحيماً، بل قال: (وما أرسلناك إلا رحمة) فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً فحسب، بل كانَ الرحمة عينها، ثاثاً: القرآن وهو كتاب الإسلام، القرآن رحمة: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة) لذلك هذا يقتضي أن أنادي الذين يعتنقون الإسلام والذين يؤمنون بالقرآن، وأنادي الذين يتبعون النبي محمداً صلى الله عليه وسلم لأقول لهم: إن لم تكونوا رحماء فلستم بمسلمين، (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) مَن هم الصالحون ؟ الذين أعطاهم الجدارة والأهلية لوراثة الأرض وراثةً صحيحة عادلة، اقرؤوا الآياتِ التي بعدَها: (إنَّ في هذا لبلاغاً لقومٍ عابدين. وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) فالصالحون الذين يستحقون وراثة الارض بجدارة هم الرحماء، لقد وصف الله اصحابَ محمد رضي الله عنهم وصلَّى الله عليه وسلم فقال: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم). يقتضي أن أناديكم وأن أنادي نفسي: هيا إلى الرحمة، فإن لم تكونوا رحماء فلستم بمسلمين.
من نرحم ؟ ارحم أول ما ترحم نفسك، ارحم قلبك بالإيمان بالله، وارحم عقلك بالقرآن الكريم تلاوةً وقراءة وتدبراً، وارحم جسمك بالعناية التي تقتضيها العبادة بشكلها الأوسع، وارحم أيها الإنسان لسانك بذكر الله عز وجل، وارحم جوارحك بالطاعة لله عز وجل، فمَن جعل جوارحه تطيع ربَّه حفظ الله له هذه الجوارح فكانت شاهدةً له في الدنيا، وكانت شاهدةً له في الآخرة بأنه عبدٌ يستحق الجزاء الأوفى، يستحق الجنة، يستحقُّ النَّعيم المقيم. فيا أمة القرآن كتابِ الرحمة، يا أمة محمد نبيِّ الرحمة، بل هو الرحمة عينها: (إنما أنا رحمة مهداة)، ويا أمة الإسلام، ويا عبادَ الله الرحمن الرحيم: تراحموا وإلا فلستم بمسلمين ودليلي على ذلك: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) هكذا قال سيد الرحماء، ويقول: (من لا يَرحم لا يُرحم)، ويقول: (ارحَموا تُرحَموا، واغفروا يُغفَر لكم)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء).
فيا أيها الإنسان: ارحم نفسَك من خلال ما ذكرتُ، وارحم غيرَك. وهنا تأتي التوجيهات والتوصيات من قِبَل ديننا الحبيب: أيها الغني ارحم الفقير، أيها الأستاذ ارحم الطالب، أيها المسؤول ارحم المواطنين، أيها التاجر ارحم الناس الذين يحتاجون إلى تجارتك، أيها الشيخ أيها الأستاذ ارحم تلاميذك وارحم الحضور، أيها الضابط ارحم جنودَك، أيها الشرطي ارحم مَن حَولك.
علينا أن نُعَنون علاقاتِنا كُلَّها بعنوانِ الرحمة وإلا - كما قلتُ وذكرتُ الأدلة - وإلا فلسنا بمسلمين. أيها القوي ارحم الضَّعيف، أيها الطبيب ارحم المريض، أيها الحاكم أيها الوزير أيها المدير ارحم مَن جعلَهم الله تحت مسؤوليتك، من أناط الله مسئوليتهم بك ارحمهم، وإلا فلست بمسلم، ولست بإنسان سوي، ودليلي على ذلك أن النبي صلى الله وسلم يقول: (لا تُنزع الرحمة إلا من شقي) إن نُزعت منك الرحمة بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، من نُزعت منه الرحمة فهو شقي ولا نريد لأحد من هذا الوطن الغالي أن يكون شقياً. هيا إلى التراحم حسب ما قال سيدنا وقائدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحُمَّى والسَّهر). أيها الرجل ارحم زوجتك، أيها الأخ ارحم أختك، أيها الأخ ارحم أخاك، أيها الولد ارحم أباك، أيتها البنت ارحمي أمك، أيتها الأم ارحمي ابنتك، أيها البائع ارحم المشتري، أيها الجار ارحم الجار الذي بجانبك والذي بجانب جانبك وهكذا دواليك.
أيها المؤمنون المسلمون: عنوان ديننا الرحمة، (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، و: (مَن لا يَرحم لا يُرحَم)، وأعتقد أن هذه الرسالة كافية وقد وجَّهتُها لنفسي أولاً ولكم ثانياً على اختلاف مَناصبكم وعلى اختلاف وظائفكم وعلى اختلاف طَبقاتكم الاجتماعية وعلى اختلاف مستوياتكم المادية وعلى اختلاف تطلُّعاتكم وآمالكم وعلى اختلاف أعماركم. إنها أمانة أضها بيد أيديكم، الرحمةَ الرحمةَ، وإلا لن تنفعَكم لا صلاة ولا صيام ولا ادِّعاء، لن ينفعكم هذا لأنكم، لا أقول لأنكم، لأنَّ هذا الذي لا يَرحم حُكِم عليه من قبل المصطفى صلى الله عليه وسلم بالشَّقاء: (لا تُنزَعُ الرحمة إلا من شقي).
اللهَ أسأل أن يوفِّق كُلَّ واحدٍ منا، وهو يقوم بأي تصرف يصدُر عنه أن ينظر إلى تصرفه نظرةً من خلال ربِّه ومن خلال نبيِّه ومن خلال قرآنه، وأن يُحاسب نفسه: هَل كانَ في هذا التصرف الذي أُمر به أن يتصرفه هل كان رحيماً، هل كان سلوكه سلوكه الذي قام به نحو فلان وفلان هل كان رحيماً ?! هل أنفق بدافع الرحمة ودافع الإيمان ?! هل أعطى وهو يقول الكلمة الطيبة لمن أعطى، هل أمسك، واجبه أن يمسك فلاناً هل أمسكه برحمة، أم انتهَكَه، أم انتهك عرضه، أم كأنه وقد أمسكه وقع على عدو لدود، وهو في نفس الوقت يُناديه بالمواطن والجار والأخ.
رسالة الرحمة ينبغي أن نتحلَّى بها وأن نُعمِّمها اليوم ولا سِيما في تلك الأيام التي تُغطِّي سماءَها سُحُب الشِّدة، سحب المعاناة على أغلب الناس. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا رحماء فينا بيننا يا رب العالمين، وأن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أسوتنا وقدوتنا ونحن نتصرف تصرفاتنا كلها ونحن نقوم بكل ما أوكل إلينا من عملٍ أو قول يا ربَّ العالمين، نِعمَ مَن يُسألُ أنت، ونعم النَّصيرُ أنت، أقولُ هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت في جامع السيدة نفيسة عليها السلام بحلب الجديدة بتاريخ 9/12/2022
لمشاهدة فيديو الخطبة، لطفاً اضغط هنا
ندعوكم لمتابعة صفحتنا عبر الفيس بوك بالضغط على الرابط وتسجيل المتابعة والإعجاب
https://www.facebook.com/akkamorg/
ندعوكم لمتابعة قناتنا عبر برنامج التليغرام بالضغط على الرابط وتسجيل الدخول والاشتراك.
التعليقات