آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


أخبار صحـفيـة

   
القيم الأخلاقية في السيرة النبوية/ الإيثار

القيم الأخلاقية في السيرة النبوية/ الإيثار

تاريخ الإضافة: 2013/07/29 | عدد المشاهدات: 3740

تُحدِّث كثيراً عن صحوةٍ إسلامية، وأسأل: هل ثمة صحوة إسلامية ؟ يقولون: نعم. أقول ما دلائلها فيجيبون: كثرة صلاة وصيام وحج وعمرة وتلاوة للقرآن... أقول: هذا صحيح، ولكن ألسنا بحاجة إلى صحوة إيمانية ؟! قالوا: وهل من فرقٍ بين صحوةٍ إسلامية وصحوة إيمانية ؟! أقول: نعم، فالصحوة الإسلامية هي البناء الظاهر والإيمانية هي الأساس، ولا يمكن لبناءٍ أن يكون متيناً إلا إذا كان أساسه متيناً، لا يمكن للإسلام أن يستقيم إلا إذا ارتكز إلى إيمان، فنحن في صحوةٍ إسلامية لكنني أرى أننا في سُبات إيماني، فهلا سعينا من أجل أن نصحو إيمانياً. والسؤال: هل للصحوة الإيمانية من دلائل ؟ والجواب: نعم، دلائل الصحوة الإيمانية الأخلاق. إذا تمتع المجتمع بالأخلاق فهذا دليل على صحوته إيمانياً. ودليلي على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه" ودليلي أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له" والأمانة خلق، فمن لم يكن أميناً لا يمكن أن يكون مؤمناً. إذا أردتم أن تتعرفوا على صحوة إيمانية فانظروا أخلاق المجتمع، إذا كانت أخلاقهم حميدة فاعلموا أن إيمانهم متين وقوي، ولذلك نحن ندعو إلى صحوة إيمانية تتمظهر بدعوتنا الناس إلى التحلي بالأخلاق التي جاء بها القرآن الكريم ودعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم.

من أجل أن نتحلَّى بالأخلاق فإنني أضع أمامكم الأخلاق الحميدة من خلال أقوال سيد الأخلاق الحميدة محمد عليه الصلاة والسلام، ومن خلال سيرة صاحب الخلق العظيم الذي شهد الله له بذلك فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم). ولذلك خصصنا هذه السلسلة للقيم الأخلاقية عبر السيرة النبوية، عَلَّنا، وعَلَّ الناس جميعاً يؤوبون إلى هذه الشخصية المعيار محمد عليه الصلاة والسلام، فلعلهم حين يؤوبون يجتهدون في التحلي بالخلق الحميد التي تحدث عنها سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم.

اليوم نحن مع خلقٍ هو "الإيثار".

الإيثار هو: أن يجود الإنسان بالعطاء مع الحاجة إلى ما يعطي. أنت تحتاج هذا المال أو الطعام، ومع ذلك تقدِّمه للآخرين، ولذلك قال تعالى: (ويطعمون الطعام على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً)، على حبه، أي على حاجتهم إلى هذا الطعام، وهذه الحاجة وصلت إلى مرحلة الحب والتعلُّق لأنهم بحاجة ماسة إلى هذا الذي يقدمونه للآخرين. قال الله أيضاً: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون). الإيثار عطاءٌ مع الحاجة الماسَّة إلى هذا الذي تعطيه، وبقدر شدة حاجتك إليه، بقدر ما تكون صاحب إيثار، وبقدر ما تكون متحلياً بالإيثار أكثر وأعظم، وأقرب إلى التحلي بخلق الإيثار وأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأطهار وصحابته الكرام. هذا هو تعريف الإيثار ولينظر كل واحد منا نفسه هل هو قادر ومتصف ومستعد من أجل أن يكون مؤثراً، فليمحِّص كل منا نفسه، لأننا نريد أن يجاهد كل منا نفسه ليصل سبيل الرشاد: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).

الرسول عليه الصلاة والصلام حضَّ أمته والإنسانية على الإيثار، ومن جملة ما ورد عنه ما رواه البزار مرفوعاً عن عمار بن ياسر قال: "ثلاثٌ من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار". وإذا أردنا الحديث عن الإنصاف باختصار فإننا نقول: الإنصاف أن تجعل مَنْ أمامك نصفك، وتجعل من نفسك نصفه، فأنت تتشكل من نصفك ومن نصف الآخر، وهو يتشكل من نصفه ومن نصفك، فما تريده لنصفك ينبغي أن تريده للآخر، وما يريده الآخر ينبغي أن يريده لنصفك أنت الذي استودعته عنده. أما بذل السلام للعالم فإننا نقول: إننا أمة سلام، ولسنا أمة حرب ولا تخويف ولا رعب، نحن أمة سلام، وتحيتنا فيما بيننا وللعالم كله: "السلام عليكم"، والله قال لنا: (يا أيها الناس ادخلوا في السلم كافة)، وها هو الرسول يقول: "وبذل السلام للعالم".

أما الإنفاق من الإقتار، فبالرغم من أن الرزق قُتِّر عليك تقتيراً إلا أنك تنفق، لديك القليل لكنك تعطي وتطعم الطَّعام على حبه، وتؤثر على نفسك غيرَك ولو كان بك خصاصة، وحاجة إلى هذا الذي تعطيه.

يقول عليه الصلاة والسلام في حديث يرويه البخاري ومسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". هذا حديث إنساني عام، ينبغي أن نضعه يافطة على بيوتاتنا ومدارسنا وجامعاتنا، ينبغي أن نعلمه أولادنا وأطفالنا، وأن نجعله مع الطعام والشراب لنلقنه أجيالنا وكل ما حولنا، ولقد سمعت من إيطالي أسلم قوله: إن الذي دفعني إلى الإسلام هذه القاعدة العظيمة التي قالها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وقد ربط الإيمان بمحبة الخير للغير كما هي للنفس. وهذا من دلائل الإيمان.

ويقول عليه الصلاة والسلام كما في البخاري ومسلم: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فأنا منهم وهم مني". إذا أصابتهم الفاقة والجوع في الغزو أو قلَّ طعامهم في المدينة أتى كل واحد بما لديه من طعام وشراب وأشياء ينتفع بها هو والآخرون ثم اقتسموه بالسَّوية فيما بينهم، فأنا منهم وهم مني.

أما في تطبيقات النبي الحياتية ومواقفه الشريفة نجد أن كل مواقفه وحياته إيثار، الرسول عليه الصلاة والسلام كان سيد الإيثار كما كان سيد العفو وسيد الأمانة وسيد الأمان وسيد العدل والكرامة. هو سيد الناس في كل خلق حميد.

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها كما في مسند الإمام أحمد: "ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فمنعه". عظمة النبي أنه إذا سئل عن شيء ولو كان بحاجة إليه فإنه يعطيه ليقول لهذا الذي أمامه: أنت أيها الإنسان أغلى من كل شيء في هذا الكون، فالإنسان هو سيد الكون، والكون مسخر له، وتبقى كل الأشياء أقل من هذا الإنسان. تحضرني هنا عبارة لأبي الدرداء رضي الله عنه حين قال: "لو كانت الدنيا لقمة ووضعتها في فم أخي لاستقللتها عليه".

كنت قد قرأت قصة لهؤلاء الذين تربوا في مدرسة النبي عليه الصلاة والسلام. يقول أحدهم: في غزوة اليرموك انطلقت إلى ابن عم لي أبحث عنه بين الجرحى، فهديت إليه، وهو يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة. فأشار إلي أنه بحاجة إلى ماء. فأتيته بالماء، ولما أدناه إلى فمه سمع أنين جريح بجانبه فنزعه من فيه وأعطاه للذي بجانبه، ولما أدنى الرجل الآخر الإناء ليشرب سمع أنين جريح ثالث فأعطاه الماء، ولما أخذت الإناء لأعطيه للثالث وجدته قد مات، فعدت إلى ابن عمي فوجدته قد مات أيضاً، وعدت إلى الرجل الثاني فوجدته قد مات أيضاً. لقد آثر بعضهم بعضاً في ساعة لا يؤثر الإنسان فيها نفسَه على نفسه. إنه تحلٍّ بالحديث الشريف: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

هيا إلى خلق الإيثار، هذا الخلق الحميد، لأننا بحاجة إليه لا سيما في هذا الوقت. وأنا لا أطلب الآن أن يباشر المرء التحلي بخلق الإيثار، لكنني أدعوكم إلى التدرب والتمرّن في العطاء أولاً عن غير حاجة إلى هذا الذي تعطيه، ثم بعد ذلك تتدرب من أجل أن تنفق ما تحب، وتعطي الذي تحتاج، وتعطي الفقير أروع وأكرم ما عندك، وتتدرب لتجعل أخاك الذي أمامك كنفسك، وأن تكون معه منصفاً، وأن يكون نصفك وتكون نصفه. إن لم نكن كذلك فلن نكون أصحاب دعوة الناس إلى خيرٍ دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل الناس إليه زرافات ووحداناً على هذا الدين العظيم: (إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً). ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في لوحةٍ يجب أن نضعها أمام أعيننا في حياتنا كلها: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" اللهم وفقنا للعطاء وللإيثار وللكرامة وللأمانة ولكل خلق حميد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التعليقات

شاركنا بتعليق