آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


لطيفة قرآنيــــة

   
لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة

لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة

تاريخ الإضافة: 2007/01/12 | عدد المشاهدات: 6983

كنت قد وعدتكم أن نتناول في لقائنا هذا في اللطائف القرآنية، سورةً كاملة من القرآن الكريم لنشرحها ونبين ما فيها من لطائف تخص المعنى لغةً وإشارة ودلالة... إلخ

وكنا وعدناكم أيضاً أن تكون السورة التي نتناولها هي سورة القيامة، التي يقول ربنا عز وجل في مطلعها:

﴿لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة * أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوّي بنانه * بل يريد الإنسان ليفجُر أمامه * يسأل أيّان يوم القيامة﴾.

يتناول مطلع السورة بالحديث يوم القيامة: ﴿لا أقسم بيوم القيامة﴾، وفي ذلك ترابط موضوعي مع سورة المدثر التي تسبقها في ترتيب السور، فالله عز وجل يقول في آخر سورة المدثر: ﴿كلا بل لا يخافون الآخرة * كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة﴾.

الحديث إذن في آخر سورة المدثر عن الآخرة، عن هؤلاء الذين لا يخافون الآخرة، لا يخافون الآخرة لأنهم لا يؤمنون أو لا يريدون أن يؤمنوا بها.

هؤلاء الذين لا يخافون الآخرة، ولا يريدون أن يؤمنوا بها... تأتي سورة القيامة في افتتاحيتها لتتحدث عنهم أيضاً: ﴿لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة * أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوّي بنانه * بل يريد الإنسان ليفجُر أمامه * يسأل أيّان يوم القيامة﴾.

وقد ورد في سبب نزول هذه السورة، أن واحداً من هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، واسمه عدي بن ربيعة، جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: متى يكون يوم القيامة ؟ وما أمره ؟ فأخبره به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقال هذا الرجل: يا محمد. لو عاينتُ ذلك اليوم ما صدّقتك ولم أومن بك، أو يجمعَ الله هذه العظام ! ... وأشار إلى عظام كانت أمامه. فأنزل الله تعالى: ﴿لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة ....﴾.

إذن نزلت هذه الآيات بسبب هذا الرجل، عدي بن ربيعة، والذي كان جاراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يقول عنه النبي: اللهم اكفني شر جاري السَّوء.

نعود الآن إلى الآيات لنستخرج بعض لطائفها:

﴿لا أقسم بيوم القيامة﴾: ما موقع (لا) في هذه الجملة ؟

إنها ليست (لا) النافية، فعندما يقول الله تعالى: ﴿فلا صدّق ولا صلّى﴾ في هذه السورة نفسها فإن (لا) هنا هي (لا) النافية). وأما (لا) في صدر هذه الآية فهي ليست نافية وإنما هي صلة... صلة للتوكيد، أي: أقسم بيوم القيامة.

والسؤال الآن: لماذا أتى ربنا عز وجل بـ (لا) التي يقول عنها اللغويون إنها (لا الزائدة)، أو يقولون: (لا الصلة)، لكي لا ينسبوا إلى القرآن الزيادة. لماذا أتى ربنا عز وجل بـ (لا) ولم يقل: أقسم بيوم القيامة، دون ذكر (لا) التي يقال عنها زائدة أو صلة أو توكيد.

والجواب: لقد نزل القرآن بلغة العرب، واستخدم أساليبهم في البيان، والعرب يستخدمون (لا) على أنها صلة للتوكيد، وقد وقعتُ على بيت من الشعر استخدم قائله مثل هذه (لا) إذ يقول:

تذكرتُ ليلى فاعترتني صبابة وكاد ضميرُ القلب لا يتقطع

أي: وكاد ضمير القلب يتقطع. أو: وكاد ضمير القلب لا يتقطع بل ينفجر، فـ (لا) نافية للظاهر، لكنها في حقيقتها مثبتة للمعنى وزيادة.

فربنا قال: ﴿لا أقسم بيوم القيامة﴾، أي: لا أقسم بيوم القيامة من أجل تعظيم هذا اليوم، لأن القسَم عندكم أيها العرب هو من أجل التعظيم... لا أقسم به لأعظّمه، بل أقسم به لأنه حقيقة.

لقد تغير غرض القسم، فليس القسم من أجل التعظيم، وإنما هو من أجل أن يقول الله عن يوم القيامة، الذي أبى هذا الجاحد أن يؤمن به ولو عاينه، فيقول له الله تعالى: أنا لا أقسم بيوم القيامة على أنه عظيم، ولكن أقسم به على أنه حقيقة.

لقد قلت أيها الجاحد: إن يوم القيامة ليس بحقيقة، وإنك لن تؤمن أو تصدق به، ولكن الله يقول لك: أنا أقسم بهذا اليوم الذي تنكره، وليس قسمي به إلا لأنه حقيقة واقعة لا شك فيها... فالله تعالى يؤكد بقسَمه على أن هذا اليوم حقيقة، وليس القسم على سبيل التعظيم، لأن المقام هنا لا يقتضي التعظيم، وإنما يقتضي إثبات الحقيقة.

وكأن المعنى: لا أقسم بيوم القيامة على أنه معظّم، ولكني أقسم به على أنه محقّق... على أنه سيأتي.

لقد أقسم ربنا بيوم القيامة على أنه حقيقة ثم أقسم بشيء آخر فقال: ﴿ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾:

لقد أقسم ربنا تعالى بشيئين: بيوم القيامة الذي منفصل وبعيد عنك، وهو غائب سيأتي ولا شك.

ثم أقسم بأمر هو فيك ولكنك لا تعلم حقيقته، رغم أنه فيك، ورغم أنك متكون عليه، وقائم به، وهو النفس اللوامة التي بين جنبيك.

لقد أقسم بأمرين: بأمر مفصول عنك وغائب، وبأمر ليس مفصولاً عنك وإنما هو فيك ولكنك لا تعلم حقيقته... بل الله هو الذي يعرف حقيقتك أكثر من أن تعرف أنت حقيقة ذاتك.

لا أقسم بيوم القيامة على أنه معظّم، ولكني أقسم به على أنه حقّ.

ولا أقسم بالنفس اللوامة على أنه أمر تعرفونه أنتم، ولكن أقسم به على أنه أمر معروف لديّ. لأن الله تعالى لو أقسم بالنفس اللوامة على أنه أمر تعرفونه أنتم، لكانت معرفتكم حقاً وكانت عالية المستوى ومصدّقة، ولكنكم لا تعرفون هذه النفس اللوامة كما يعرفها الله عزَّ وجلَّ. لذا يقسم بها الله تعالى على أساس علمه بها، لأن الله تعالى يقسم بالحق، ومعرفة الإنسان لم تصل إلى القطع التي لا تحتمل أدنى شك، فمعرفة الإنسان نسبية كما قلنا في لطيفة سابقة، وأما معرفة الله عزَّّ وجل فقطعية.

ومن باب التأكيد على أن (لا) هنا للتأكيد نذكر قراءة متوترة قرأ بها ابن كثير المكي وابن محيصن وغيرهما، وهذه الرواية هي : ﴿لَأقسمُ بيوم القيامة﴾، واللام هنا هي لام القسم.

التعليقات

شاركنا بتعليق