آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
دروسٌ من العيد

دروسٌ من العيد

تاريخ الإضافة: 2008/12/12 | عدد المشاهدات: 2980

أما بعد، فيا أيها الإخوة المسلمون المتحابون المتعاونون إن شاء الله:

لا بد من أن يتخذ الإنسان من كل شيء يلُمُّ به ويقعُ عليه ويحيط به عبرة، ولا بد من كل المناسبات والأوقات والعصور والدقائق والثواني دروساً، فها هو العيد قد مرَّ علينا، وها نحن بعد آخر يومٍ من أيام العيد، فهل هنالك دروسٌ يمكن أن نستخلصها من العيد ؟ نعم، أيها الإخوة، هنالك دروسٌ تُستخلص من العيد بشكل عام، وآمل أن تكون هذه الدروس دروساً فعلية تُعلمنا ونتعلم منها. لن أزيد في هذه الخطبة في تلك الأيام التي تريدون أن تنفضّوا منها إلى معايدات وزيارات، لا أريد أن أزيد عن ثلاثة دروس يمكن أن نستخلصها من العيد.

الدرس الأول: الطاعة تُفرِح، والعبادة تسر: وإذا كان الأمر كذلك كما قال ربي عز وجل: ﴿فبذلك فليفرحوا﴾ والعيد إنما يأتي بعد طاعة وعبادة، والعيد فرح، فأنت ترى أن عيد الفطر يأتي بعد رمضان، وأن عيد الأضحى يأتي بعد الحج. والعيد فرح، فالعبادة تُفرح والطاعة تسر، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تحاول أن تكون دائماً فرحاً مسروراً من خلال قيامك بالعبادات والنوافل، واسمحوا لي أن أوجه وبهدوء نفسي وإياكم إلى قضية الفرح والسرور من أجل أن نحصله عبر النوافل والطاعات والعبادات، ولا سيما وأننا نعيش حالات اكتئابية كثيرة، فما منا من أحد وإلا وله مساحة من الكآبة، لا بد وأن يمر عليها صباحاً أو مساءً، القضية في ترتيبها المنطقي هي ما يلي:

إذا كانت العبادة تُفرز فرحاً، وإذا كانت الطاعة تؤدي إلى سرور، وبإمكانك أن تعبد وأن تطيع، فلماذا لا تعبد ولا تطيع حتى تزيل ما علق بك من هموم وأحزان، لأن الطاعة تُفرِح، ولأن العبادة تُسِر ؟! لماذا إذا ما شعرت بشيء من الاكتئاب والقلق والاضطراب لماذا لا تلجأ إلى الصلاة ؟! ما لي أراك معرضاً عن الصلاة وهي الوسيلة التي تجعل منك إنساناً فرحاً مسروراً ؟ فَرِحاً فَرَحاً مقبولاً مشروعاً، فرَحاً يطمئن داخلك ويُطمئن قلبك ويطمئن روحك، فلماذا لا تصلي ؟! لماذا أيها الذي تحتفل بالعيد لا تحتفل بطاعةٍ توجهها لربك، وبعبادة تجعلها متوجهة إلى خالقك ؟ لماذا ؟! لماذا لا تقوم فتصلي ركعتين من النوافل ؟ لماذا لا تهبُّ إلى قراءة القرآن الكريم حتى تفرح وتسر، حتى يطمئن قلبك ؟ أوليس الله قد قال وأنت تُصدِّق الله، ومن فمك أدينك، ربك يقول لك: ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ ورسوله الذي تصدقه أنت كان يقول عن الصلاة: (أرِحنا بها يا بلال) فلماذا تعرض عن وسائل تؤدي بك إلى فرحٍ وسرور وهي بمُكنتك واستطاعتك ؟ حدثني بربك عن هذه المفارقة، فالعيد دروس، والدرس الأول أن نفرح بما يسَّره الله عز وجل لنا من وسائل، وهذه الوسائل هي مجانية وفي مُكنتنا واستطاعتنا، هل تقرأ في كل يوم شيئاً من القرآن ؟ هل تصلي ركعتين في وقت الضحى ؟ هل تصلي ركعتين إضافة إلى الصلوات الأخرى ؟ هل تصلي ركعتين بعد المغرب ؟ هل تصلي ركعتين قبل أن تنام ؟ هل تصلي ركعتين قبل أن تقعد للدراسة ؟ هل تصلي ركعتين قبل أن تذهب إلى متجرك ؟ هل تصلي ركعتين قبل أن تتوجه إلى عملك ؟ هل تصلي ركعتين وتقرأ آيتين قبل أن تذهب إلى إدارتك، إلى وزارتك، إلى... الخ؟ هل تفعل هذا ومن أجلك أنت، من أجل فرحك، من أجل سرورك، من أجل اطمئنانك، من أجل استقرارك ؟ من أجلك أنت وليس من أجل ربك لأن الله عز وجل يقول: ﴿لن ينالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم﴾ العيد فرحة، والعيد يأتيك بالفرحة من خلال طاعة وعبادة تقوم بها نحو ربك الذي خلقك وسواك وعدلك.

الدرس الثاني من دروس العيد: التنظيم: لا بد من أجل النجاح من عمل وتنظيم، أوما رأيتم إلى العيد كيف نظمه الله عز وجل وأمرنا أن نتبع تنظيمه ؟ أوما رأيتم كيف يسعى الناس قبل العيد ويجدّون ويعملون ويسهرون على أعمالهم لأنهم ينتظرون العيد، والفرحة لأنهم ينتظرون البسمة، لأنهم ينتظرون ما يعود على قلوبهم بالطمأنينة، وعلى أجسادهم بالبهجة والبهاء والفرحة والسرور...الخ.

التنظيم: علَّمنا ربنا عز وجل من خلال ما أمرنا أن نقوم به في العيد بشكل خاص، أن ننظم أعمالنا، فأنت أيها الطالب حدثني هل لك برنامج في دراستك، وأنت أيها التاجر، وأنت أيها الطبيب، وأنت أيها الشيخ، وأنت أيها الحاكم... هل لك برنامج، وأنت تسائل نفسك عما طبقته وعما تنفذ من هذا البرنامج أم أنك في غفلةٍ عن كل تنظيم واستقرار، وعن كل متابعة وعن كل منهجة وعن كل ما يمكن أن يجعل منك إنساناً سوياً ؟ صلاة العيد جزء من نظام العيد وعليك أن تصلي العيد، الأضحية في عيد الأضحى جزء من نظام العيد، وعليك أن تتبع هذه النظام، وعليك أن تقوم بالأضحية بعد صلاة العيد، هذا نظام، وعليكَ أن تكبّر بعد كل فريضة، وعليك أن تفعل كذا، وعلى الحجاج أن يفعلوا هذا في عرفة، في مزدلفة، في منى، أن يرموا الجمرات، أن يقوموا بطواف الوداع، أن يقوموا بطواف الإفاضة، إلى آخر ما يمكن أن يقال عن مناسك الحج، وعن نُظم العيد، وعن أحوال العيد وعن ما يمكن أن تفعله بأمر من ربك في العيد... الخ. فلماذا لا تعمم النظام والبرمجة على حياتك كلها، والنظام والعمل سببان أساسيان من أجل نجاح الحياة، إذا ما أردت أن تكون ناجحاً في الحياة، اقرأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم فستجد أن النظام نسيجها، وأن النظام لحمتها وسداها، وأن النظام حركتها التي لا تنفكّ عنها، بل إن النظام روحها التي لا يمكن أن تفارقها وتفارق حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهاجه وسعيه وكل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم، أين برنامجك أنت حتى تحاسب نفسك على أساس هذا البرنامج ؟ أين برنامجك أيها الطالب من أجل دراستك حتى تكون دراستك دراسة متفوقة ؟ وأين برنامجك أنت أيها المدرس ؟ هل هنالك كتاب ؟ هل بين أيديك قرطاس أو مفكرة تسجل عليها ما يجب أن تفعله اليوم وما ينبغي أن تفعله بعد غد وما يجب أن تفعله في هذه الساعة أو في تلك الساعة، أم أنك تعيش كما يقال هكذا كالريشة في مهب الريح ؟ هذه لا تنتج حياة مستقرة، هذه الفوضى التي نعيشها لا يمكن أن تبني حضارة حتى ولو ادّعيناها، وهذه الفوضى التي يعيشها شبابنا لا يمكن على الإطلاق أن نسمَّى على أساسها مسلمين حقاً، فنحن من خلال هذه الفوضى بعيدون كل البعد عن ديننا وعن تعاليم ديننا وعن نبينا، حتى ولو شهدنا أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالقضية قضية عمل وقضية مجاهدة وقضية سعي وقضية متابعة وقضية مثابرة، وإذا لم يكن الأمر كذلك فلا قيمة لنا في عالم يرسم معالم الحضارة من جديد، القضية جدّ والأمر إدّ ولا يمكن أن نسوي بين أمتين، أمة تسبح في بحر الفوضى المتلاطم الذي يخرج من مائه كل ريح نتن، لا يمكن أن نسوي بينها وبين أمة أخرى تسبح في بحر النظام والاستقرار ضمن معايير ناجحة وواضحة ومستقرة وثابتة وقابلة للتطوير وقابلة للارتقاء.

الدرس الثالث: التكافل الاجتماعي فريضة من الله عز وجل: من أجل أن نبني مجتمعاً منشوداً، إن لم تتكافلوا فلا قيمة لكم، ولا قيمة للعيد ولا قيمة لكل ما تدّعونه، والتكافل يعني التعاون  والتضامن والتباذل، أن يبحث الغني عن الفقير وأن يحترم الفقير الغني وألا يكون الفقير حاسداً للغني، التكافل يعني أن يبحث المقتدر عن العاجز، التكافل أن يبحث القوي عن الضعيف، التكافل أن تبحث عن جيرانك وعن أهلك وعن أصحابك  وأن تُسائلهم عن حاجاتهم فإن استطعت قضاءها قضيتها وإن لم تستطع قضاءها بنفسك فما عليك إلا أن تساهم وأن تسعى عمن يقضي لهم هذه الحاجة، التكافل أساس مجتمعنا، المجتمع الذي لا يقوم على أساس من التكافل وإن صام وإن صلى فهو مجتمع متخلف، لا يمكن أن يبني، إن لم تبنِ الأمة بكليتها فليس هذا ببناء، الأمة التي لا يتكافل أفرادها أمة لا يمكن أن تساوى ولا يمكن أن توضع في صف الأمم الساعية إلى التقدم، هل تتكافل مع إخوتك ؟ أم أن كل واحد من إخوتك حتى النسبيين لا يسأل عنك ولا تسأل عنه وإنما تلتقون في أحس الأحوال على مائدة المجاملة الرخيصة، هذا يدعوك إلى بيته وأنت تدعوه إلى بيتك وتأكلون وتشربون ثم تنفضّون عن غير أسس التكافل التي يجب أن تبنوها فيما بينكم حتى مع أخيك النسبي حتى مع أبيك حتى مع أمك حتى مع زوجتك. ليس ثمة تكافل قائم على نظام وقائم على حدود وقائم على معايير ليس ثمة تكافل.

أين نحن من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رب العزة جلت قدرته: (أين المتحابون فيَّ ؟) أنت تحب أخاك، نعم، ولكن هذا ادّعاء، لأن المحبة ليست كلاماً ولكن المحكّ في المحبة، (أين المتحابون فيَّ، أين المتباذلون في، أين المتعاونون في، أين المتناصحون في، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) تلتقي مع أخيك وتلتقي مع أبيك وتلتقي مع ابنك على أساس من مجاملة رخيصة جداً تكتفون في أن يأكل بعضكم من بقايا طعام الآخر والفخر بيننا في أن بعضنا يقدّم لأخيه الطعام الفاخر وأخوه لا يأكل منه إلا الشيء القليل ثم بعد ذلك ننفضُّ على أساس من أننا نتعاون ونتكافل ونتناصر ونتحابب ولكن الأمر غير ذلك، وأنت تعلم هذا من قرارة نفسك، ابحثوا عما مضى من أيامكم واستخلصوا من ذلك دروساً فإن استخلصتم الدروس وطبقتموها إلى حدٍ ما أو سعيتم إلى تطبيقها فأنتم حينئذ أناس يتطورون وأناس يستحقون الحياة، وإلا فنحن أناس لا نستحق الحياة وقديماً، قالت العرب: كم من عائش مائت، هو حي صورة لكنه في حقيقته ميت، وكم من ميئت عائش، كم من هؤلاء العظماء ماتوا، ماتت أجسامهم وأجسادهم، ولكنهم يعيشون لأنهم كانوا ممن يعتبرون، وممن يتخذون الدروس والعبر من حياتهم، من أيامهم، من أسابيعهم، من سنينهم، من دقائقهم، من ثوانيهم، الإنسان كما يقول الصوفيون الفاهمون النابهون: "ابن وقته" بل هو ابن نفسه. هل تستغل هذا النفس الذي يصدر عنك استغلالاً إيجابياً لمنفعتك أنت ولمنفعة من تقول عنه بأنه أخوك أو إنه أبوك أو إنه جارك أو إنه صديقك أو إنه الذي تحب أو إنه الذي تقدّس ؟ هل تستغل هذه اللحظة على الأقل ادعُ لنفسك بأن يصلحك الله عز وجل، بأن يصلح أخاك، بأن يصلح أباك، بأن يصلح حاكمك على الأقل، هل تتذكر أخاك بالدعاء ؟ ما يتذكر أحدنا أخاه بالدعاء هل تتذكر جارك بالدعاك فتقول: اللهم أصلحني وأصلح جيراني وأصلح إخوتي وأصلح أصحابي وأصلح أصدقائي في العمل. حتى في هذا الأمر الذي لا يكلفك شيئاً لا تفعله لأنه لا يخطر على بالك وإنما الذي يخطر على بالك هو أن تقوم ببعض الأمور كما قلت لك التي أسميها مجاملة من الدرجة الأدنى لا أكثر ولا أقل ماذا تريد أن تقدّم لضيفك الذي سيأتيك بعد خمسة أيام ؟ هذا ما تفكر به خلال أيامٍ خمسة وهذا الضيف بالنسبة لك عابر لا يحتوي قلبك على حبٍ له ولا يحتوي قلبه على حب لك لكنك أنت تفعل ما تفعل خشية أن يتكلم عنك أحدٌ لا تعرفه ولا يعرفك أصبحت في وهم، نسجت حولك كما تنسج العنكبوت بيتاً هو من أوهى البيوت، بيتاً من الوهم وعشت على أساسه تدافع عنه وهو في الحقيقة غير موجود.

أسأل الله عز وجل أن يوفقنا من أجل أن نكون عمليين من أجل أن نستخدم جوارحنا فيما أُريد لها أن تُستَخدم به، أن نستخدم قلوبنا وعقولنا ألا نترك عقولنا، وقلت من أيام عندما دُعيت إلى إلقاء محاضرة في مركز ثقافي في مدينة سورية قلت لهم: للأسف الشديد إن العقل العربي لا يزال بورقه، لم يُستخدم ولم يُستهلك ولم يُفَعّل ولو بشيء قليل، أما أولئك الذين يعيشون في الغرب فقد استخدموا عقولهم وفعَّلوها لذلك أنتجوا ما أنتجوا وأصبحوا على الحال التي هم عليها وأصبحوا متقدمين عنا شئنا أم أبينا، أما نحن فنذهب ونعود، ونعود كما نذهب، ونعود بأقل مما ذهبنا، ونذهب بأقل مما عدنا وهكذا فهل يجوز هذا ؟!

اللهم إني أسألك أن تصلحنا وأن تصلح أحوالنا وأن تجعلنا ممن يسعى بجدية من أجل أن يخدم نفسه، لا أريد أن نتحدث عن خدمتنا الآخرين ولكن من أجل أن نخدم أنفسنا، نعم يسأل ربنا ونعم النصير إلهنا أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 12/12/2008

التعليقات

شاركنا بتعليق