أما بعد،
فيا أيها الإخوة المسلمون المؤمنون إن شاء الله:
كان لنا حديثٌ في الأسبوع الفائت عما يجب علينا فعله تجاه الطفل، أو إن شئتم سمّوا
ذلك حقوق الطفل، تحدثنا عما يجب علينا فعله تجاه الطفل فذكرنا أن تختار له الأم
الصالحة، أن تنفق عليه بسخاء، أن تؤدبه على الصدق والأمانة والحياء، أن تؤدبه
وتربيه على قراءة القرآن ومحبة النبي وآل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تقوي
أخيراً صلته بربه، ووعدنا في أن نكمل الحديث عن حقوق الطفل بشكل ملخص، أو عما يجب
علينا أن نفعله تجاه الطفل، ولئن كنا قد تحدثنا عن أربعة حقوق في الأسبوع الفائت
فها نحن أولاء نكمل هذه الحقوق لنذكر:
الحق الخامس وهو: التشجيع والحضُّ على العلم، إذ لا حضارة ولا صدارة بغير
علم، قولوا لأبنائكم لأطفالكم، ولنقل لهم جميعاً عبر كل الوسائل المتاحة في المدرسة
في البيت عبر التلفاز والإذاعة عبر الصحيفة والكتاب، لنقل لهم: إن العلم نور، ولا
يمكن للإنسان أن يعيش بغير نور، ولا نور بغير العلم، فيا أيها الأطفال حقكم علينا
أن نعلمكم وأن ندلّكم على منابع العلم، وأن نقول لكم بكل حالنا وقالنا: إن العلم هو
أساس وهو سبيل الرقي، وتذكروا يا أيها المربون من آباء ومدرسين دعوة القرآن الكريم
أتباعه والإنسانية جمعاء إلى العلم، وحسبنا أن نذكر هذه الآية باستمرار:
﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ وأن
نذكر لأطفالنا أيضاً قول الله عز وجل: ﴿وقل ربِّ زدني علماً﴾
هكذا دعا القرآن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من أجل أن يدعو ربه ليزيده علماً،
واذكروا يا أيها الآباء لأطفالكم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسبما جاء في
صحيح الإمام مسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى
الجنة) واذكروا لهم حديثاً آخر، ولا تتجاوزا هذا الذي ذكرت من أجل أن يكون هذا
متمكناً منه، اذكروا حديث أبي داود وسواه يوم قال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله
وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، واذكروا قول سيدنا
علي كرم الله وجهه حينما قال للآباء حصراً: "مروا أولادكم بطلب العلم". هذا هو الحق
الخامس فحيَّهلا إليه يا أيها الإخوة، وهيا من أجل أن نلتزم وأن ننفذ وأن نقوم بهذا
الحق الذي هو واجب علينا وهو حقٌ للأطفال ينبغي أن يُعطَوه من دون تردد ومن دون
نقصان.
أما الحق السادس فهو: علينا أن نعتبر الأطفال، ألا نهملهم ولا نغفلهم ولا
نتجاوزهم، كثيرون أولئك الذين ينظرون إلى الأطفال نظرة إهمال، كثيرون أولئك الذين
لا يريدون أن يكون الأطفال بينهم حتى في ساحات التعلم والتعرف، لا، استشيروا
الأطفال لأن الأطفال فطرة ولأن الأطفال نقاء، استشيروهم فعندهم ما يمكن أن يُعطوه
إياكم وما يمكن أن تفيدوا منه، استشيروهم ولا تهملوهم ولا تتجاوزوهم واعتبروهم،
ولقد قرأت قصة ولا شك في أن جُلَّكم يعرفها، يرويها صاحب الجامع الصغير أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أُتي بشراب فشربه وكان على يمينه غلام وعلى يساره الأشياخ،
فشرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم التفت إلى الغلام لأن السنة أن يبدأ بمن عن
يمينه، التفت إلى الغلام وقال له: (أتأذن ؟) أنا أريكم أن تتخيلوا وأن تتصوروا هذا
الموقف رسول الله في الوسط، وعن يمينه غلام صغير، وعن يساره الأشياخ، أريد بدلالة
الإشارة أن نفهم كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجلس بجانبه وعن يمينه هذا
الغلام وعن يساره كان الأشياخ. القضية قضية سبق وليست قضية دين فيما يخص الجلوس
وليس القضية قضية سن في هذا الميدان إلا إذا كان الأمر قد صدر تلقائياً عن هذا
الغلام أو نتيجة تربية في هذا المجال، لكن المهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لما انتهى من هذا الشراب وبقي شيء منه التفت إلى الغلام وقال له: (أتأذن لي أن أعطي
الأشياخ قبلك ؟ فقال الغلام: لا يا رسول الله، والله لا أوثر بنصيبي منك أحداً).
هذا منك يا رسول الله، هذا سؤرك، هذا حل فيه بركة منك، فو الله لا أقدّم أحداً على
نفسي في هذا الأمر الذي هو كما أعتقده هو نورٌ لي وبركة علي ورحمة بي، والله لا
أوثر بنصيبي منك أحداً.
تخيلوا وتصوروا أن سيد الكائنات يقول لهذا الغلام أتأذن لي يا غلام أن أعطي الأشياخ
؟ كم عبسنا في وجوه أطفالنا ونحن في المسجد، كم ركلنا أطفالنا ونحن في المسجد، كم
أهملنا أطفالنا وتجاوزناهم وهم يتكلمون، كم قاطعناهم وهم يتكلمون على أننا حينما
قاطعناهم لم نستمع لأفضل منهم، كم أهملنا آراءهم، كم تجاوزناهم تجاوز الإنسان
المستهتر بالآخر؟ لا يا إخوتي، حق الطفل علينا أن نعتبره، من اعتبر الطفل اعتُبر
ومن أهمل الطفل أُهمل، وكما قلت لكم في الأسبوع الماضي: إن الطفل هو المستقبل
وبالتالي من اعتبر الطفل اعتبر المستقبل ومن أهمل الطفل أهمل المستقبل.
الحق السابع: الملاطفة والمداعبة والتحبب، ولطالما ذكرنا ذلك الحديث الذي دخل فيه
أحد الصحابة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الحديث يرويه البخاري فرأى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبّل الحسن والحسين فقال الرجل: إن لي عشرة من
الولد ما قبّلت واحداً منهم، فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أوَأملك لك أن
كان الله قد نزع الرحمة من قلبك، من لا يَرحم لا يُرحم)، وكلنا يعلم ما كان يجري
بين سيد الكائنات وبين سبطيه الحسن والحسين، الحسين يعتلي ظهر النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كما يروي النسائي وهو يصلي ورسول الله يطيل السجود رحمة بسبطه الحسين رضي
الله عنه وأرضاه الذي اعتلى ظهره متسلياً وملاعباً ومداعباً النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، وبادله النبي الملاعبة والمداعبة وهو في الصلاة ولما أطال السجود، لعل
بعض الصحابة استغرب ذلك فلما انتهى من سجوده وصلاته قال: (إن ابني هذا ارتحلني وأنا
ساجد، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته) حاجته من التسلية، من اللعب، من اللهو. هذه
هي الطفولة في رياض المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهذه هي حقوق الطفولة في ساحة
النور التي فرشها بنوره محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحق الثامن: أن نعلمهم ونربيهم على النظافة والعناية بالأمكنة، والعناية
بالصف والعناية بالمدرسة والعناية بكل شيء، النظافة أساس، واليوم تسمعون تلك
الأوبئة التي تنتشر هنا وهناك، علينا أن نعلم أطفالنا أن النظافة جزء مهمٌ من
ديننا، لأن الطهور شطر الإيمان كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، علينا أن
نعلم أطفالنا وأن ندربهم وأن نربيهم على النظافة، نظافة الأبدان وعلى العناية
بالجسم، وعلى العناية بكل ما حولهم من مدرسة وبيت وجامع، ولطالما قلنا: انظروا
شوارعنا فشوارعنا اليوم لا تعبّر عن إسلامنا، وانظروا مساجدنا بشكل عام من حيث
النظافة والعناية المادية فهي لا تعبّر عن ديننا وإسلامنا، ونبينا صلى الله عليه
وآله وسلم وانظروا مدارسنا فهي لا تعبر عن ديننا ولا عن قيمنا ولا عن عروبتنا ولا
عن وطنيتنا، لأن ما نفعله في مدارسنا ومدارسنا في حالتها الراهنة لا تدلل على أننا
أمة تقول عن النظافة وعن الطهارة بأنها شطر الإيمان أو بأنها من الإسلام بمكان
ومكانة، لذلك ربوا أطفالكم على نظافة البيئة، كل العالم اليوم يدعو إلى عدم تلوث
البيئة ونحن نساهم بتلوث البيئة، البيئة المادية والبيئة المعنوية، لكننا نتكلم
اليوم عن البيئة المادية، انظروا شوارعنا ما أكثر أوساخها وما أشد انتشار هذه
الأوساخ في الشوارع، البيئة ملوثة، ملوثة من حيث الأوساخ ملوثة من حيث الدخان ملوثة
من حيث كل ما يؤذي هذا الإنسان، قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أريده أن يرفع
شعاراً في مدارسنا وفي شوارعنا، يقول صلى الله عليه وآله وسلم كما يروي الطبراني
بسند حسن: (من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم) وتلوث البيئة إيذاءٌ
للمسلمين وإيذاءٌ للناس في طرقهم في فضاءاتهم في ساحاتهم في شوارعهم في أجسامهم،
سلوا الله عز وجل واعملوا من أجل أن يجنبنا ما يعود بالضرر علينا من أوبئة، نحن أمة
غدونا اليوم لا نُعنى بالنظافة إلا إذا حلَّ الوباء بنا، اليوم صرت أسمع الناس
يقولون تنبهوا يا أبناءنا من أن يصيبنا هذا الوباء الذي انتشر في المكسيك أو في
أوربا أو في أمكنة أخرى من العالم، صار الناس يحذرون أبناءهم، أتريدون أن نحذّر
أبناءنا حينما تحل المصيبة ؟ التربية عندما تقع المصيبة لن تنفع، لذلك أدعو نفسي
وإياكم من أجل أن نكون من الذين يعتنون ويعنون بالنظافة الجسمية والمادية والشارعية
والمدرسية والجامعية والحدائقية وكل مكان نحل فيه ونجلس فيه ونوجد فيه. ومن تمام
التربية البدنية أن نسمح ولا أقول أن نسمح بمعنى أن نرفع القيد ولكن أن نشجع في أن
يمارس الأطفال هواياتٍ لهم مباحة تقوي جسمهم تقوي عقلهم فرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم كان يقول كما في صحيح الجامع الصغير: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان
رامياً) هوايةٌ مباحة، وكما ورد عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال:
"علموا أولادكم الرماية والسباحة وأن يثبوا على الخيل وثباً". وهذا قولٌ واردٌ عن
عمر بن الخطاب بعد التحقيق. اسمحوا لهم أن يمارسوا تلك الهوايات شريطة ألا تتجاوز
ممارسة هذه الهوايات الوقت الأصلي المسموح للدراسة والعلم والمعرفة، أعطوا لكل شيء
حقه ولا تتجاوزوا في إعطاء الأشياء حقوقها.
أخيراً الحق التاسع: علينا أن نعلمهم وأن نلقنهم حب الوطن، وأن للوطن واجبات
علينا وأن للوطن حقوقاً علينا، الوطن بيتنا الكبير، الوطن مسجدنا ومدرستنا وشارعنا،
الوطن أرضنا الوطن مصنعنا الوطن معملنا وهل هذه الأشياء إلا مكونات الوطن، مم يتكون
الوطن يا إخوتي ؟ يتكون الوطن من بيت وشارع ومسجد ومعمل وأرضٍ مزروعة وأرض يتسلى
فيها أبناء الوطن، كل هذه الأشياء، فعلينا أن نرعى الوطن أن ندافع عنه أن نحميه من
كل مكروه وأن يكون وطناً أنموذجاً، علينا أن نعلم جميعاً بأن الوطن مظهرنا، يكفي
عندما نريد أن نتحدث عن ديننا وحينما نتحدث عن قيمنا أن نشير إلى أوطاننا لتكون
الدليل على صدقنا فيما نقول، وإلا إذا كانت الإشارة إلى أوطاننا لن تسعفنا في أن
تكون الدليل فلن يقبل الناس قولنا ولن يقبل الناس ادِّعاءنا مهما قلنا ومهما تلونا
عليهم من آيات وأحاديث وأقوالٍ مأثورة وأشعار وكلماتٍ لباسها الحكمة ولباسها الروعة
والتأثير، الوطن هو المحضن وهو المحكّ، ولقد قلت مراراً وتكراراً عندما يأتينا
إنسان ويسمع منا فإنه يُسر عندما نسمعه الكلمات العِذاب والكلمات الجميلة، لكنه
حينما يرى الواقع فسيرى بوناً شاسعاً، سيرى الواقع يتدنى عن أن يرقى إلى واحد على
مئة مما نقول، فكيف تدّعون بأنكم أمة متحضرة تقولون هذه الأقوال لكن الواقع يخالف
كل ذلك. علموا أبناءكم ولقنوهم حب الوطن وأن هذا الحب ليس شعارات نرفعها وليس
نشيداً ننشده وليس أغنية نغنيها وليس هزّاً للأيدي، نهز من خلالها أيدينا أمام
المسؤولين، وليس حب الوطن وروداً ننثرها أمام المسؤولين عندما يأتون المدارس أو
المساجد التي نحن فيها، لا يا إخوتي، حبُّ الوطن ليس قصيدة ولا شعراً، ليس دعوة
ودعاءً لمسؤول، حب الوطن ليس أن نقف أمام المسؤولين بنظام وانتظام نصف ساعة لنقول
لهم نحب الوطن ونكرر هذه الكلمة.
حب الوطن عمل، حب الوطن فداء، حب الوطن تضحية، حب الوطن زراعة، حب الوطن صناعة، حب
الوطن مدرسة متفوقة بالتدريس والتعليم، حب الوطن جمعية تريد الخير للبلد، حب الوطن
دولة وحكومة تنام الليل وهي تفكر وترى في أحلامها ومناماتها ما يجب أن تفعله في
صبيحة اليوم التالي، حب الوطن دليل على أن ما نقوله صحيحاً، وليس حب الوطن واقعاً
يكذّب أقوالنا وادعاءاتنا ويكذب نشيدنا وقصيدنا، آمل أن نقول لهذا الطفل الذي هو
المستقبل: يا أيها الطفل العزيز الغالي، ولعلي تكلمت عن الطفل منذ أكثر من عشرين
عاماً وخطبت من أجل الطفل أكثر من ست خطب كنت من خلالها أقول للطفل: أيها الطفل
الحبيب، وها أنذا أكرر بعد عشرين سنة لأقول: أيها الطفل الحبيب، أريدك شهماً
وشجاعاً وأبياً ورافع الرأس ومتعلماً، أريدك طاهراً أريدك عفيفاً أريدك صاحب نظافة
في السر وأريدك صاحب رؤية عقلية ثاقبة، أريدك شاباً تنشأ في طاعة الله، أريدك
عفيفاً في طهر أريدك حسن الخُلق أريدك أن تكون في هذا المجتمع عماداً له.
أيها الطفل أنت غالٍ على قلوبنا أنت غال على مجتمعنا وأنت غالٍ على وطننا فليحفظك
ربي أينما كنت وفي أي بيئة وجدت.
وأنتم أيها المسؤولون عن الأطفال أتمنى أن يكون الأمر جداً وان تسعوا جاهدين للتوجه
إلى الطفل توجهاً صادقاُ تربوياً مقدراً ومعتبراً، أملي أن يكون هذا الوطن في الغد
القريب وطناً نحبه ويحبنا، نعمل له ونقدم له ما يطلبه منا بوفاءٍ وإخلاص.
اللهم وفقنا لذلك، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ 1/5/2009
التعليقات