آخر تحديث: الإثنين 15 إبريل 2024
عكام


أخبار صحـفيـة

   
الاستشراق رؤية بانورامية / صحيفة تشرين

الاستشراق رؤية بانورامية / صحيفة تشرين

تاريخ الإضافة: 2005/03/02 | عدد المشاهدات: 2921

نشرت صحيفة تشرين الصادرة في دمشق بتاريخ : الأحد 30/1/2005 مقالاً للدكتور الشيخ محمود عكام بعنوان : الاستشراق رؤية بانورامية وذلك في صفحة مدارات تشرين . وهذا هو نص المقال :
 

الاستشراق رؤية بانورامية

يتسم الاستشراق بسمة عصره، ويأخذ طابع طبيعته، ويمكن ان يكون الاستغراب كذلك، وليس الانفتاح من جهة ما على جهة أخرى متهما دائما، إذ التعايش يأخذ حيزا احتماليا ايضا في تكوين ارادة التعرف والدراسة والاطلاع.
لقد أتى حين من الدهر علت فيه راية الشرق ودخلت عالم الغرب، وأسست هناك قواعد وروجت افكارا، وإن شئت قل «عقائد». ‏
وكان لكلمة «الشرق» و«الشرقيين» جرس خاص، ودلالات دقيقة ذات ابعاد مختلفة الألوان إذ كانت الألوان رمزا يعبر عن حالات الانسان النفسية ومستويات القبول والرفض عنده. ‏
فمن الأبعاد ما كان أسود شديد الرفض، لأن مضمون الشرق في ذهن أصحاب هذا اللون عدوان واعتداء وقهر وتسلط. ‏
ومنها ما كان شديد القبول، لأن المضمون عند أرباب هذا اللون رسالة سماء، وانتشال روح كادت تغرق في خناقات التشويش العقدي والتشريعي. ‏
والتدرج بين اللونين، سلبا وايجابا، متداخلَين له رواده وأصحابه. ‏
ويوم انتهى فصل علو الشرق وعاد الغرب يسطر عناوين صفحات عصر التنوير، والثورات الصناعية والاقتدارات العلمية، برزت من جديد ردة فعل قادها احفاد اللون الأسود القديم، وأرادوا انتقاما ولكنهم عقلنوه، وهم الأقدر على اعطاء الأفعال صبغة العقلانية، ما دام السنان بيدهم، والآلة تخرج مصنعة من ديارهم. ‏
وجهدوا في تغييب الدافع الديني من لائحة دوافعهم، لاسيما أن «الحروب الصليبية» في رأيهم، تكفي من أجل أن تكون القوة الرادة لفعل الشرق إذا حمل الدين الاسلامي إليهم. ‏
وحدث الانتقام المعقلن في إراءة اهل الشرق سوء ما تميزوا به، على حد زعمهم، من فكر وفلسفة ونصوص، من خلال دراسات استشراقية تناولت المضامين واتسمت بالتحاملية، وأفرزت «زيهر رينان، جب». ‏
وما كان الغرب يومها خالي الوفاض من موالين أظهروا مودتهم بلسان العلم، وجرى بهم القلم إلى اعترافات بامتيازات الشرق، واقتداره على تقديم كبير خدمة للإنسان في جوّاه وداخله «لوبون، مونو». ‏
وفي هذه الحقبة بالذات عبر بعضهم فقال: ‏
«الاستشراق طلائع الاستعمار، وها هو يمهد لاستعمار حدث في نهايات القرن السابق وبدايات القرن الراهن». ‏
يمكن القول الآن: ان الاستعمار قد انتهى وبقي الاستشراق وتحول مساره بعد اطلاع قريب ومعرفة تعبر الواقع وانقلبت الطلائع الاستعمارية إلى مناهج دراسية، ،وأضحى لسان الحال ينطق احيانا: ومن الذي قال ان الشرق لا يملك معطيات خيرة يفيد منها الانسان. ‏
وخفت حدة التحاملية، أو سقطت، وارتسمت في خارطة الدراسات الاستشراقية مناهج مختلفة متباينة. ‏
1¬ منها ما أوجبت تطبيق الاسلوب الغربي في دراسة مضامين الشرق، وقد رفضت هذه من قبل مثقفي الشرق ورجالاته، لأنهم رأوا في تطبيق اساليب الغرب نتائج غير مقبولة أو معقولة، وكادت هذه الدراسات تنسف غيبيات وتقضي على اعتقادات: فهل يقبل او يعقل ان يكون «محمد ے» بطلا فحسب؟! ‏
وهل نرضى «أن يغدو الاسلام حلقة لا امتياز لها في سلسلة الأديان؟! ‏
وما أظن أن واحدا منا يقبل ايضا ان يكون القرآن الكريم متغيرا برمته، ومتحولا كله، وأن لا ثوابت، و إنما الوعاء الزمني هو الحاكم على الدلالات كلها، يبقي ما يبقى،ويفنى ما يفني، وتأثر بعض المثقفين المسلمين بذلك ودخلوا المعمعة نفسها، ورددوا صدى هؤلاء وكتابة «طه حسين» وما قاله «علي عبد الرزاق» وما أنتجته عبارات الإمام «محمد عبده» في بعض الأحايين شواهد على ذلك. ‏
2¬ ومن الدراسات: ما اكتفت بالجمع والموسوعية والتحقيقية وأدت دورا هاما في تبيان خفايا خير واظهار قديم كاد ينسى، وما اظن ان ذلك خاف على الدارسين وان كان التحرز من هذا النوع قد سرى على علماء الشرق، تأثرا بما فعلته الدراسات السابقة، وصدرت العبارات التالية: «سمٌّ في دسم»، «ولا تأمنوهم وإن أظهروا خيرا فالعبرة بالنية». ‏
3¬ وتحركت دراسات أخرى نحو الميدان نفسه، فجال اصحابها الشرق، وحطت اقدامهم على بره وبحره وصحرائه، بحثا عن شخصية مؤثرة، أو مخطوطة لها كبير اثر، أو مكان كان قد اثر في الزمن الماضي من خلال احداثه التي شكلت منه معلما وموئلا، وأول من يطالعنا من هؤلاء «ما سينيون وهو يبحث عن حلاجه» و«ريتر وهو يفتش عن الحسن البصري» وغيرهم. ‏
4¬ وقامت دراسات أخرى ولعلها من أنجبت الاستشراق الحديث أو كانت سلفه، فاتجهت إلى التاريخ وفلسفته، والقرآن وعلومه، والحديث وسنده، وكل ما يمكن ان يكون من افرازات الواقع الاسلامي السابق، وناقشته بشيء من التجرد، واعلنت خدمته، لانه يحوي روائع لا تظهر روعتها إلا إذا اتُّخذت لها قوالب معاصرة، تشكل مواد علوم مكتشفة حديثة: «الانتربولوجيا، الاركيولوجيا» الأتنولوجيا، الايبستمولوجيا، اللانكويستك...» ورحت تشم من بعضهم رائحة الوصاية على مخزون الشرق العظيم بسبب قدرة أولئك على العلوم والأساليب المذكورة. ‏
وجاء الاستشراق الحديث بعد منتصف القرن الراهن، بل بعد ثلاثة ارباعه، وهو يحمل ابعاد الماضي وتمخض الظرف هذا عن الألوان السابقة محتواة متبنّاة وتراءت فيه كله. ‏
إلا أن شيئا جديدا حدث في هذه الفترة، وهو ما يسمى التحرك الثقافي للبحث عن امكانية التعايش، فتحول الاستشراق أو اغلبه إلى دراسات تعرفية جادة، وجهد في ان يلبس لبوس الموضوعية وتبادل مع مثقفي الشرق المعطيات العلمية على طاولة التفاوض المتناظر، ورحت تلمح بعض دراسات يمكن ان تكون منطلق دراسات «انتربولوجية» يتقاسمها كل من الشرق والغرب، لأنهم بجمعهم قادرون على تقديم الصورة الكلية للانسان، كل في مجاله واختصاصه، واعترف التقسيم بقدرة نظيره، و امكان تغطيته لشيء ما من تطلعات الانسان، ولاحت في الأفق لوامع من هذا، وحسبنا ان نشير هنا إلى سجلات المؤتمرات الاستشراقية¬ الاستغرابية، لاسيما ما جرى منها بعد بداية القرن الخامس عشر الهجري، وقد شاركت في مؤتمر مطلع القرن الخامس عشر الهجري الذي نظمته منظمة المؤتمر الاسلامي في اليونسكو «باريس» عام 1981م، ودعت اليه شرقيين وغربيين، و مستغربين ومستشرقين، وأسفر المؤتمر عن توصيات هامة فيمايتعلق بالتبادل الثقافي من اجل افادة متبادلة، وأخيرا وليس آخرا، لأن الكلمات هنا رؤية وليست بحثا علميا، فالاستشراق اليوم غدا عبارة من عبارات التاريخ المعاصر، ومصطلحا من مصطلحاته، وعلى هذا فهو يحتاج إلى دراسة دلالية ذات شقين ومستويين، دون ان يكون هناك اختلاط بينهما؛ فما أسقطه من دلالات في الحقبة الماضية القريبة لم تعد ضمن اسقاطاته اليوم قطعا، فاستشراق الأمس متحامل، واستشراق اليوم يبدو راغبا في موضوعية، ونازعا إلى حيادية، وطامعا في معرفة تعايشية، فهل يقدر شرق اليوم على إشغال الغرب والاجابة على كل تساؤلاته الانسانية فيما يتعلق بالرسالات السماوية، وحسب الغرب المستشرق بعدها ان يردد كلمة الإمام الغزالي:«طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم ان يكون إلا لله». ‏
ويا أيها المستشرقون تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم هي الحوار، وألا يبخس بعضنا بضاعة بعض، والرائد لكلينا: (يا ايها الانسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك‎) الانفطار/6، و (اقرأ باسم ربك‎ )العلق/1. ‏

دمشق ، صحيفة تشرين ، مدارات
الاحد 30 كانون الثاني 2005
بقلم د. الشيخ محمود عكام‏

التعليقات

شاركنا بتعليق