أمَّا بعد، فيا أيُّها الإخوة المسلمون المؤمنون إن شاء الله:
يُقال وفعلاً هذا القول حَقيق وصحيح، يقال: إنَّ قيمة الأشياء لا تنُبع من وجودها، ولكن تنبُع وتأتي من فاعِليتها وتفعيلها، فالسَّاعة التي في يدك لا يكفي وجودُها من أجل معرفة الوقت، ولكن لا بد من تفعيلها حتى تُحقِّق أغراضها وحتى تعرف الوقت الذي أنت فيه ومن أجل هذا كانت الساعة. وهذا أمر مَفروغٌ منه ومن صِحَّته ومن أحقيِّته. حينما نتحدَّث عن شيءٍ تملكه وتدَّعي بأنك تملكه، ألا وهو الإيمان بالله عزَّ وجل فهل يكفي أن يكون الإيمان موجوداً عندك أم لا بُدَّ لك من تفعيله، وإلا لا عِبرة لوجوده وبِوجوده إن لم يكن مُفعَّلاً، إن لم يكن مُفعَّلاً ما يُجدي الإيمان إن لم تُفعِّله وقتَ الحاجة إليه، ما يُجدِي الإيمان إن لم يدفعك لينتج شُكراً حين السَّراء، وما ينفع الإيمان إن لم تُفعِّله حتى يُنتج صبراً حين الضَّراء، إن أصابتك سَرَّاء فلم تشكُر وأنتَ مؤمن فما ينفعُك هذا الإيمان ؟! لأنك لم تُفعِّله. إن فعَّلتَ الإيمان في السرَّاء شَكرت وبذلت وأعطيت: (اعملوا آل داوود شُكراً)، وإن فعَّلت الإيمان بالله عزَّ وجل حين الضرَّاء صبرتَ وثابرت وتابعت ورضيت وبقيت على إيمانك بربك ولم تتضجَّر ولم تقلق ولم يُصِبك هَمٌّ ولا غَم يجعلك تخسَرُ قِواك النَّفسية والعقلية، ومن هنا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن) الذي يُفعِّل إيمانه، (عجباً لأمر المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) فهل فعَّلت الإيمان بالله حين الضراء ?! وهذا ما لم ألمحه عند المؤمنين، أو عند أولئك الذين يقولون عن أنفسهم بأنهم مؤمنون. نحن في شِدَّة، نحن في قسوة، أصابتنا ضراء، فأين الصبر يا إخوة ? ولا أعني بالصبر الخنوع ولا الخضوع، ولكن أعني بالصبر أن تبقى على طاعتك ربك، وأن تبقى مُثابراً على عملك الذي يُرضي ربك، وأن ترضَى عن الله عز وجل، وأن تقول بملئ ذَرَّاتك: (الحمدلله على نعمة الإيمان بك)، فقد فعَّلتها في الضراء فها أنذا صابر، وبعد الصَّبر سيأتي النَّصر، (واعلم أنَّ النَّصر مع الصَّبر، وأنَّ الفَرَج مع الكَرب، وأنَّ مع العُسر يُسراً). ثم أنت أيها الذي غَطَّته سَحابة السَّراء أين شُكرك، أين توجُّهك لربك من أجل أن تقول له: (الشُّكر لك يا رب)، تقول ذلك بلسانك، وتقول ذلك بحالك، وتقول ذلك بجوارحك، وتقول ذلك بذرَّاتك، وتقول ذلك بعملك، تُفتِّش عن إنسانٍ ما بحاجةٍ إلى هذا الذي أكرم الله به عليك لتُعطيه بعضَه: (وما تنفقوا من شيءٍ فهو يخلفه) وأعني بذلك المال وغير المال، أعني الماديات والمعنويات. أين الشُّكر العملي يا أيها الذي غَطَّت سماءه سَحابة السراء، أين الشُّكر العملي وأين الشكر القولي وأين الحال التي تُقدِّم لمن حولك واقعاً وأنموذجا عملياً يلهج بالشكر حتى تُعطي دروساً للآخرين، لأولادك، لطلابك، لمرؤوسيك، لجماعتك في هذا الشأن. فعِّل الإيمانَ بالله في السَّراء وفي الضراء، وإلا لا قيمة لإيمانك، كما قلتُ في البداية: ما قيمة الشيء إن لم نُفعِّله، ما قيمة الإنسان إن لم يفعل إنسانيته، لا قيمة للإنسان من خلال وجوده المادي فحسب، وإنما قيمة الإنسان بما يقدم ويعمل، بما تنتجه إنسانيته من عطاءٍ نافع، من مُعطَياتٍ خَيِّرة تنشُر في المجتمع رائحةً طيبة. فعِّل الإيمان في مُواجهة الظلم ولو كان الظالم أنت، ولو كان الظالم أخاك. المشكلة أننا نُفعِّل - هكذا نتوهم - أننا نفعل الإيمان في مواجهة الظالم الذي نختاره نحن، والذي نعطيه صفة الظلم نحن، وعندما يكون الظلم مُتجسِّداً أو قائماً فينا أو في أحد ممن يلوذ بنا عند ذلك لا نفعل الإيمان بالله تجاهه، وإنما نقف أمام ذلك مستسلمين. فعِّل الإيمان بالله في مواجهة الظلم من أيِّ مكانٍ كان قد صدر، من أي شخصٍ ما كان قد صدر، فعِّل الإيمان بالله عزَّ وجل في مُواجهة الظالم. لما آمن سحرة فرعون بموسى عليه الصَّلاة والسلام بعد أن رأوا الحقيقة ساطعة، آمن هؤلاء السحرة، فقال لهم فرعون وكان ظالماً من دون شك: (آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علَّمكم السِّحر فلأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم من خِلاف ولأصلبنكم في جذوع النَّخل ولتَعلمُنَّ أيُّنا أشدُّ عذاباً وأبقى) أجابه هؤلاء السَّحرة الذين آمنوا، تحوَّلوا من سَحَرة مُزيَّفين إلى مُؤمنين حقيقيين: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءك من البينات والذي فطرنا فاقضِ ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنَّا آمنا بربنا ليغفرَ لنا خطايانا وما أكرهتَنا عليه من السِّحر والله خير وأبقى). فعِّل الإيمان في مواجهة الظلم، انصح هذا الظالم الذي ظلمك، انصح ولدك حينما يكونُ ظالماً وقدِّم النصح بالأسلوب الذي تقدر عليه، فمن استطاع أن يُنكِر المنكر بيده فليفعل، ومن استطاع أن يُنكر المنكر بلسانه فليفعل، ومن استطاع أن ينكر المنكر بقلبه فليفعل، هكذا أمرنا سيدُ المؤمنين بربهم عليه الصلاة والسلام. فعِّل الإيمان - يا أخي - بالله عَزَّ وجل، فنحنُ في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه إلى تفعيلِ الإيمان في علاقاتنا، في حياتنا، في كل شؤوننا. اذهب بينك وبين نفسك، قل هل أنا مؤمن، إن نظرتَ إلى تصرفٍ ما صَدَرَ عنك وكان هذا التصرفُ ضدَّ الإيمان فاعلم بأن إيمانك خامل، وأن إيمانك هامد، وأن إيمانك مُعَّطل، لذلك جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا بعدك ؟ قال: قل آمنتُ بالله ثم استقم)، قل امنت بالله ثم فَعِّل لتكونً مُستقيماً وفقَ ما يُرضِي ربَّك عزَّ وجل في كل أفعالك، وبذلك يكون الإيمان قد حقَّق أغراضه وغاياته، وحقَّق ما من أجله كان الإيمان بالله عزَّ وجل، ثم استقم في علاقاتك وِفقَ شريعةِ اللهِ عَزَّ وجل في تحركاتك وفي سكناتك وفي كلماتك. ما أكثر ما نتكلم والإيمان بالله غائب عن رقابة هذه الكلمات، نتكلم ونحسِب أننا نتكلم بما لا يخالف الشريعة، ولكننا في الحقيقة نتكلم الكلمة لا نُلقي لها بالاً نهوي بها في جهنَّم سبعين خريفاً، أين الاستقامة بعد أن تقول بينك وبين نفسك وبعد أن تُقِرَّ بينك وبين نفسك بأنك مؤمن.
يا إخوتي: باختصارٍ شديد، وبكلمة مُوجَزة ومُوجِزة: لا إيمان إن كنا نعتمدُ على الإيمان الموجود غير المفعل، فَعِّلوا ايمانكم في حياتكم، فعِّلوا إيمانكم بالله عز وجل في حياتكم وفي علاقاتكم وفي توجهاتكم وفي عباداتكم. العباداتُ غابَ عنها الإيمان بالله فأضحت عاداتٍ لا أكثر ولا أقل، العباداتُ أضحت عادات لأنها لم تنطلق لم من إشعاع الإيمان، لم تنطلق من تَوجُّه الإيمان بالله عز وجل، أنت تصلي بحكم العادة، وأنت تصوم بحكم العادة، وأنت تذكر بحكم العادة، فاللهَ أسألُ أن يوفقنا لتفعيل الإيمان في دواخلنا حتى يُنتج الآثار المرضية، وحتى تكون هذه الآثار المرضية عملاً صالحاً، وكما قلتُ: الله عَزَّ وجل ربطَ الجزاء الأوفى في الدُّنيا والآخرة بالإيمان المفعَّل، والإيمان المفعل يُنتج عملاً صالحا: (إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفِردوس نُزُلاً) تقبَّل منا يا ربنا إيماننا، ووفقنا لتفعيل هذا الإيمان، واجعلنا من المستقيمين، يا رب العالمين، نِعمَ مَن يُسألُ أنت، ونعم النَّصيرُ أنت، أقولُ هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت في جامع السيدة نفيسة عليها السلام بحلب الجديدة بتاريخ 16/12/2022
لمشاهدة فيديو الخطبة، لطفاً اضغط هنا
ندعوكم لمتابعة صفحتنا عبر الفيس بوك بالضغط على الرابط وتسجيل المتابعة والإعجاب
https://www.facebook.com/akkamorg/
ندعوكم لمتابعة قناتنا عبر برنامج التليغرام بالضغط على الرابط وتسجيل الدخول والاشتراك.
التعليقات