أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
تحدثنا في الأسبوع الفائت عن العزة المطلقة الذاتية التي هي لله وحده، وتحدثنا عن العزة بالله، ويمكن أن نسميها العزة الانتمائية، فأنت تعتز بالله، فلنعمَ هذه العزة، وإن كنت تعتز بغيره فما أظن أنك، بل لا أعتقد أنك ستلقى العزة، لأن العزة بغير الله ذل شئنا أم أبينا.
خطر ببالي بعد هذا الذي تحدثنا عنه أن نذكر نماذج حية من تاريخنا الذي لا يخلو من ومضاتٍ نورانية عظيمة، أن نذكر نماذج للمعتزين بالله، قرأت ما يسمى بكتب الأعلام، فحصدت منها بعضاً من مواقف لهؤلاء المعتزين بالله، وانتقيت أربعة منهم، وها أنذا اليوم أريد أن أعرض عليكم هذه المواقف، فاسمحوا لي أيها الإخوة حتى إذا ما كنا مؤمنين بالفكرة وهذا ما أقوله دائماً: منطقية الفكرة تقنعك، ورؤية هذه الفكرة مجسّدة في أشخاص تطمئنك: ﴿قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنَّ قلبي﴾.
الأنموذج الأول: تسمعون برجلٍ يسمى العز بن عبد السلام، هذا الرجل الذي عاش في القرن السابع الهجري، وكان في عهد المماليك، وفي عهد رجل من حكام المماليك يسمى قطز سيف الدين، وهو ثالث ملوك المماليك. أراد هذا الرجل أن يحارب التتار كما تعلمون فقام وفرض نصيباً "ضريبة" من المال يدفعه الرعية، فوافق العلماء الحاضرون إلا العز قال للحاكم: تستطيعون أن تفرضوا على الرعية بشرط ألا يبقى شيءٌ في بيت المال أولاً، وثانياً أن تبيعوا جواهركم النفيسة وأدواتكم المذهّبة وأن تتساووا أنتم والشعب، فإن فعلتم ذلك، عندها نفتي بجواز فرض الضريبة على الناس من أجل محاربة التتار، أذعن الحضور وتوجه الجيش واستسلم قطز لما قاله العز بن عبد السلام، وتوجه الجيش بقيادة قطز لمحاربة التتار، فحاربوهم وانتصروا عليهم في معركة تسمى "عين جالوت"، وجاء بعد قطز الظاهر بيبرس واستلم الحكم، فلما توفي العز بن عبد السلام قال الظاهر بيبرس اليوم استقرَّ أمري، لأنه لم يعد هناك من يعارضه.
لما قال العز بن عبد السلام لقطز هذا الذي قلته لكم، سأله نجله عبد اللطيف، قال له: يا والدي لقد خفتُ عليك خوفاً شديداً من بأس الأمير ! فصاح العز: لا تقل ذلك يا بني، فأبوك أهون من أن يقتل في سبيل الله عز وجل. وهو نفسه من قال في موقفٍ آخر مماثل عندما قال له أيضاً أحد أفراد أصحابه، قالوا له: كيف استطعت أن تقول هذا الكلام للأمير ؟ فقال كلمته المشهورة: لقد استحضرت وأنا أكلم الأمير، لقد استحضرت هيبة الله فصار أمامي كالهر. هذا أنموذج للمعتزين بالله ما سقناه إلا من أجل أن نتشربه، إلا من أجل أن نتنسمه وأن نستنشق من هواء هذه الصورة، من نسيم هذا الموقف. يا شباب أنتم تملكون الاستعداد من أجل أن تكونوا معتزين بالله، فتحققوا بهذا، فو الله ليس هنالك من عزة إلا لله، وليس هنالك من سبيلٍ للقوة إلا عندما نستمسك بحبل الله، هذا أنموذج.
الأنموذج الثاني: الإمام النووي صاحب رياض الصالحين والأذكار والأربعين النووية، وقد جاء من الناحية الزمنية بعد العز بن عبد السلام، لأنه توفي عام 676هـ وكان في عهد الظاهر بيبرس الذي جاء بعد قطز، تهيأ الظاهر بيبرس لبعض حروبه أيضاً وأراد أن يأخذ من الرعية كما فعل سابقه قطز، لكن هذا الظاهر بيبرس قال لقد مات العز فاستقر أمري، فهيا من أجل أن أفرض على الناس ضريبة، وإذ بالإمام النووي يقوم بعد أن أفتى من أفتى بجواز أن يفعل هذا الرجل ما أراد، فقال النووي للظاهر بيبرس: يا هذا كلنا يعلم أن لديك ألف مملوك، وأن كل مملوك من هؤلاء لديه شيء من ذهب، وكلنا يعلم أن عندك مئتي جارية، ولكل جارية نصيبٌ من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله أفتيتك بجواز الأخذ من الرعية. فقال الظاهر بيبرس متذكراً موقف العز: ذرية بعضها من بعض.
الأنموذج الثالث: وهذا الأنموذج لحاكم، لرجل دولة يسمى محمود الزنكي العادل، هذا الرجل كان يهتم بمصالح العباد، وكان يداوم على الجهاد، وكان يباشر القتال بنفسه، وكان يتمنى أن يموت شهيداً، حارب الصليبيين وأخافهم وكان الصليبيون يعتقدون أن فيه سراً من أسرار الله عز وجل، كان حريصاً على تقدم الأمة، لم يكن بالرجل المكتفي بالجهاد والقتال، لا، ولكنه أنشأ المدارس والمستشفيات وبنى قصراً في ربوة دمشق من أجل استجمام الفقراء، اليوم فقراؤنا يبحثون عن مكان من أجل أن يقضوا فيه بعضاً من الوقت، لا يجدون إلا ذلك المكان حول المدينة، يجلسون هناك، ولا مرافق تُقَدم لهم، هذا الرجل منذ ما يزيد عن تسعمئة سنة قدم للناس الفقراء قصراً في ربوة دمشق لاستجمام الفقراء، كان همه الفقراء، وما أظن أننا اليوم نضع في همنا الفقراء، فالغني يستجمُّ مع أسرته ولا ينظر إلى الفقير أويفكر فيه، هل يستجم، هل يستريح، هل يتنزه ؟ لا، فالفقير لم يعد يفكر فيه لا من قبل المسؤول ولا من قبل الغني، وأصبح الفقير يتدبر أمره بنفسه، يحزن تارة ويفشي سره لفقير مثله تارة أخرى، ويذهب أمام زوجته ويغضب ويقول ألفاظ الطلاق، ونحن الشيوخ نقول له لقد طُلِّقت زوجتك، على الرغم من أنه لم يرد أن يطلقها لكنه غضب، فالكل عليه، المسؤول عليه، والغني عليه، والشيخ عليه، كل الناس على الفقير، الفتاوى تنصبُّ على الفقير والضرائب تنهال على الفقير، هذا الرجل ما جعلني أقول هذا الكلام، هذا الرجل بنى قصراً في ربوة دمشق لاستجمام الفقراء وأقام الخانات وحسّن الطرقات وأمنّها وجعل فيها من يحفظها، كان فارساً حسن التكوين، وكان يجاهد بنفسه، وكان حريصاً على مال الأمة. حكى رجل من المشتغلين بخدمته أن زوجة محمود لم يكفها ما قرره لها من النفقة، فطلبت أكثر، فأرسلت هذا الشخص المتحدث، يقول: فأرسلتني زوجته، وقلت له إن زوجتكم تقول بأن ما قررتم لها من النفقة لا يكفيها، فاحمّر وغضب وقال: والله لا أخوض نار جهنم في هواها، إن كانت إنما تظن أن الذي بيدي من المال لي فبئس الظن هذا. وعد يا هذا من حيث أتيت فلا زيادة. كان يُدعى له على المنابر، طلب مرة من أحد العلماء صيغة من أجل أن تعمم من أجل أن يُدعى له بها على المنابر فكتب إليه أحدهم قال: فلنقل يا سيدي على المنابر: اللهم أصلح عبدك الفقير إلى رحمتك الخاضع إلى هيبتك المعتصم بقوتك المجاهد في سبيلك المرابط لأعداء دينك محمود. فقرأه هذا الرجل ورفضه وقال: مقصودي ألا يُكذب على المنبر وهذا كذب أنا لست ذاك المجاهد في سبيل الله، ولست ذاك المرابط لأعداء ين الله، لا، فأنا بخلاف ما يُقال. قال وماذا نقول على المنبر ؟ قال: قولوا على المنبر: اللهم أره الحق حقاً وارزقه اتباعه، وأره الباطل باطلاً وارزقه اجتنابه. هكذا قولوا.
الأنموذج الرابع: رجلٌ يسمى سعيد بن جبير، هذا الرجل من كبار علماء التابعين، توفي في نهاية القرن الأول، هذا الرجل أيد رجلاً يسمى عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته على الحجاج الظالم، فحاكمه الحجاج وأتى به وقبض عليه واعتقله ووضعه أمامه وقال له: ما اسمك يا هذا ؟ فقال: سعيد بن جبير. فقال الحجاج : بل أنت شقيٌ بن كسير. فأجاب سعيد: أبي كان أعلم باسمي منك. فقال له الحجاج: شقيت وشقي أبوك. فقال له سعيد: هذا غيب ولا يعلم الغيب إلا الله. فقال الحجاج : لأبدلنَّك ناراً تلظى. فقال: لو علمت أن ذلك لك ما اتخذت إلهاً غيرك. فقال له الحجاج: ما رأيك في الخلفاء ؟ فقال سعيد: لستُ عليهم بوكيل. فقال الحجاج أتريد أن أعفو عنك. قال سعيد: إن كان العفو فمن الله وأما أنت فلا تملك عفواً عن إنسان. فقال له الحجاج: اختر قتلةً تريد أن أقتلك بها ؟ فقال له سعيد: اختر أنت القتلة التي ستقتلني عليها، فو الله لا تقتلني اليوم قتلة إلا قُتلت في الآخرة بمثلها. سيجزيك الله الجزاء نفسه، أنت عليك أن تختار لأنك ستقتل بنفس القتلة بنفس الشكل في الآخرة، ثم رفع سعيدٌ يديه وقال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي. واستجاب الله له دعاءه وكان سعيد آخر من تسلط عليه الحجاج.
أيها الشباب: إنها حقيقة من اعتز بالله فتلك العزة الصحيحة، أتريدون العزة ؟ وقد حدثتكم عن سبل الاعتزاز بالله الأسبوع الفائت فارجعوا إليها لا عزة إلا بالله، لا عزة إلا بالذي خلقك وسواك وعدلك، هذه بعضٌ من مواقف لمعتزين بالله فيا شبابنا يا أمتنا يا حكامنا يا أساتذتنا: الحقيقة ساطعة، رسول الله اعتز بالله فرفعه الله، الصحابة كانوا معتزين بالله فرفعهم الله، هؤلاء الذين تحدثنا عنهم اعتزوا بالله فرفعهم الله. غيرهم اعتز بغير الله فأذلهم الله وأذل هو نفسه، أتريدون أن يرفع الله قدركم بالعدل والرحمة والحكمة، فليكن انتماؤكم إلى الله عز وجل انتماءً قوياً، من كان مع الله كان الله معه، الله ولي الذين آمنوا، إن تتولوا ربكم فالله سيتولاكم، قاعدة حتمية وسنة كونية ربانية محكمة لا غبار عليها، جربوا، ومع التجريب يقين، فالحصاد خيّر ورائع وجميلٌ وإنتاجٌ لا أجود ولا أروع، جربوا فستلقون كل ما أقوله لكم حقاً وصدقاً.
اللهم اجعلنا من المعتزين بك يا رب العالمين، اللهم حققنا بالاعتزاز بك من خلال ما ذكرنا في أسبوعٍ مضى، اللهم نعم من يسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.
ألقيت بتاريخ 19/6/2009
التعليقات