آخر تحديث: الإثنين 15 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
الاطمئنان في البلاء

الاطمئنان في البلاء

تاريخ الإضافة: 2009/07/10 | عدد المشاهدات: 4530

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

تحدثنا في الأسبوع قبل الماضي عن إعدادٍ نفسي متين، وقلنا إن الاستقرار النفسي هو أساس البناء والنجاح والإبداع، ثم تحدثنا في الأسبوع الفائت عن عاملٍ كنا قد ذكرناه قبلاً، عن عاملٍ يسهم في تحقيق الاستقرار النفسي، وأفَضنا في الحديث عنه، وأؤكد اليوم على أنه ما لم نكن في حالة استقرار نفسي وفي حالة اطمئنان فلن يكون هنالك إنتاج، ولن يكون هنالك إبداع ولن يكون هنالك عملٌ نافع ولن يكون هنالك بناءٌ لمجتمع منشودٍ مطلوب، إن الاطمئنان إلى المصير الذي ذكرناه في الأسبوع الماضي ليساعد على أن نستقر نفسياً، وإن الاطمئنان إلى المصير في الدنيا والآخرة لهو من أشد العوامل التي تسهم في تثبيت وتقوية وتدعيم هذا الاستقرار.

اليوم تصورت أن سائلاً منكم يسألني: الإنسان في حالة الصحة وفي حالة الرخاء يمكن أن نكلمه حول الاستقرار النفسي وحول العوامل التي تسهم في استقراره النفسي، وما دمتَ قد تحدثت عن ضرورة الاستقرار والاطمئنان النفسي فهذا سيكون في حالة السراء والرخاء والصحة، أما في حالة الضراء وفي حالة الشدة وفي حالة القسوة كيف يمكننا - هكذا تصورت السائل يقول – ونحن نعيش ابتلاءً معيناً، أو الواحد منا يعيش ابتلاءً معيناً في صحته في ماله في ولده في بلده في أي شيء يلفه ويلمُّ به، فكيف يمكن أن يكون مطمئناً مع هذا البلاء الذي يحفه والذي يدور حوله والذي يكاد أن يجلببه ؟

أقول فعلاً عندما تصورت سائلاً منكم يسألني هذا السؤال وجدتني أبحث في كتابٍ أحببته، ولعلَّ كثيراً منكم يسمع عن هذا الكتاب، وربما قرأه، وجدتني مندفعاً من أجل أن أقرأ في هذا الكتاب بعضاً من جوابٍ يمكن أن يكون لهذا السؤال الذي تصورته وقد طرحه واحدٌ منكم، هذا الكتاب هو كتاب "الحكم العطائية"، عدتُ إلى هذه الحكم، إلى هذا الكتاب الذي كتبه أحد علماء القرن الثامن الهجري، الذي توفي في بدايات القرن الثامن الهجري، هذا الرجل الصوفي من حيث قلبه ووجدانه وضميره، رجعت إلى هذا الكتاب وأنا أستذكر بيتين من الشعر قالهما صاحب هذا الكتاب ابن عطاء الله، وقد وضع هذان البيتان على قبره في مصر، يقول ابن عطاء الله:

أوليـتني نِعمـاً أنـوءُ بحملها          وكـفيتني كل الأمور بأسرها

فلأشكرنَّكَ ما حييت وإن أمُت         فلتشكرنك أعظمي في قبري

هذان البيتان لا يفارقان خَلَدي، وأنا أقرأ لهذا الرجل الحكم الذهبية الرائعة، فتشت في أثناء هذه الحكم عن جوابٍ للسؤال الذي تصورته فوجدت فيه ما يلي:

"كيف تجد الأمان والاطمئنان وأنت في حالة الابتلاء ؟" اسمع مني قَسَّمت الحكم التي وجدتها تقدم الجواب لهذا السؤال إلى ثلاثة أصناف، وضعت الصنف الأول تحت عنوان: وصف واقع، ووضعت الصنف الثاني تحت عنوان: فهم لامع، ووضعت الصنف الثالث تحت عنوان: موقف خاشع.

أيها المبتلى: الابتلاء حاصل والابتلاء قائم والابتلاء لابدَّ أن يكون شئت أم أبيت، ها هو قد حلَّ بك، فما عليك إلا أن تعرف هذه الدنيا حتى لا تستشعر الألم والابتلاء وحتى لا يكون هذا الابتلاء دافع قلق، عليك أن تعرف الدنيا على حقيقتها، وهذا تحت عنوان وصف واقع من أجل أن تطمئن، في حالة الابتلاء أدرك تماماً أن الدنيا هي دار أكدار، دار ابتلاء، دارٌ لا يمكن للإنسان أن يكون فيها سليماً من كل ما يمكن أن يخدش صحته أو وجوده أو أي شيء فيه، هذه الدار دار ابتلاء، لذلك قال ابن عطاء الله: "لا تستغرب وقوع والأكدار ما دمت في هذه الدار، فإنها ما أبرزت إلا ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها" هذه طبيعتها.

جُبِلت على كَدرٍ وأنت تريدها                  صفواً من الأقذار والأكدار

ومُكـلف الأيـام ضد طبـاعها               متطلب في الماء جـذوة نار

طبيعة الدنيا ابتلاء، طبيعة هذه الدنيا، ما من يوم إلا وسيكون هنالك ابتلاء في هذه الناحية أو في تلك الناحية، قد لا يكون الابتلاء لك خاصة ولكنه ابتلاءٌ لجارك، وابتلاء جارك هو ابتلاؤك إن كنت تشعر بالمودة والأخوة التي أرادها لك الشرع أن تشعر بها، لأن المؤمنين إخوة، لأن المواطنين إخوة، لأننا يجب أن نشعر بالآخرين فالمؤمنون (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حينما صُبَّ عليه البلاء صباً في كل حياته قال في لحظة من اللحظات: (إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي).

أولاً من أجل أن تكون مطمئناً، وأؤكد على هذا من أجل أن تكون خطبة الجمعة ورقة عمل لنفسنا لروحنا لعقلنا من أجل أن تكون مطمئناً حتى في البلاء عليك أن تعرف حقيقة هذه الدنيا وحقيقتها أنها دار ابتلاء دار كدر.

ثانياً: الفهم اللامع: يقول ابن عطاء الله وها أنذا أتلو عليكم بعض حِكَمه التي جعلتها تحت عنوان فهم لامع يقول: "ليخفف ألم البلاء عنك علمك أنه سبحانه وتعالى هو المُبلي". من الذي ابتلاك ؟ الله، الله من ؟ خالقك راحمك منعمٌ عليك هو الذي أراد لك كل الخير، ليخفف ألم البلاء عنك علمك أنه سبحانه وتعالى هو المُبلي "فالذي واجهتك منه الأقدار هو الذي عودك حُسن الاختيار". ﴿وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾. ليخفف ألم البلاء عنك علمك أنه سبحانه وتعالى هو المُبلي.

إن كان سَرّكم ما قال حاسدنا         فما لجرحٍ أرضاكم ألمُ

هكذا قال المتنبي لسيف الدولة عندما ضربه سيف الدولة بدواة الحبر فشج رأسه، فارتجل المتنبي هذا البيت وهذا ما قاله بَشَرٌ لبشر:

إن كان سَرّكم ما قال حاسدنا         فما لجرحٍ أرضاكم ألمُ

"ليخفف ألم البلاء عنك علمك أنه سبحانه وتعالى هو المُبلي".

حكمة ثانية: "متى أعطاك أشهدك بره، ومتى منعك أشهدك فقرك، فهو في كل ذلك متعرفٌ إليك مقبلٌ عليك". في حالة العطاء وفي حالة المنع متعرفٌ عليك متفقدٌ لك، متى أعطاك أشهدك بره، ومتى منعك أشهدك فقرك فهو في كل ذلك متعرفٌ إليك مقبلٌ عليك. قرأت أبياتاً من الشعر في يومٍ من الأيام لواحدٍ أحب واحدة فقال لها:                            

أبيـني أفي يمناكِ جـعلتني فأفرح                أم صـيّرتـني بشمـالك

لئن سـاءني أن نلتِنـي بمسـاءةٍ       لقـد سـرَّني أني خطرت ببالكِ

فهو في كل حال متعرفٌ عليك مقبلٌ إليك، اسمع أيها الإنسان: يقول ابن عطاء الله من أجل أن يخفف عنك ما أنت فيه من البلاء حتى تبقى مطمئناً في حال البلاء، وهذه الحكمة بالنسبة لي هي أعظم حكمة من حكم ابن عطاء الله، يقول: "العطاء من الخلق حرمان، والمنع من الله إحسان". ورحم الله الشاعر الذي قال:

فلا ألبس النُّعمى وغيرك مُلبسي        ولا أقبل الدنيا وغيرك واهبي

إن لم يكن العطاء منكَ يا رب فلا عطاء،  العطاء من الخلق حرمان، والمنع من الله إحسان. لأنه ما منعك إلا ليُشهدك قهره، وهو في كل حال متعرفٌ إليك مقبلٌ عليك. يقول ابن عطاء الله تحت صنف الفهم اللامع: "خيرُ أوقاتك وقتٌ تشهد فيه وجود فاقتك". إن كنتَ غير مُبتلىً ربما استغنيت بنفسك عن ربك واستغنيت بنفسك عن نفسك وظننت أنك شيء وأنت في الحقيقة لا شيء، لذلك قال: "خيرُ أوقاتك وقتٌ تشهد فيه وجود فاقتك وتُرد فيه إلى ذِلّتك". بنى الله لأحبابه بيتاً سقفه همومٌ وأحزانٌ وحيطانه الضرُ وأدخلهم فيه وأغلق بابه وقال لهم مفتاح بابكم الصبرُ.

يقول سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الترمذي: (إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه). وقال أيضاً كما يروي الإمام أحمد: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط). ويروي البيهقي والترمذي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً ابتلاه ليسمع تضرعه إليه).

"إلهي نَعَّمتني فلم تجدني شاكراً" هكذا كان يقول سيدنا الحسن بن علي كر م الله وجهه ورضي الله عنهم وأرضاهم "وابتليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت أزلتَ النعمة بترك الشكر، ولا أنت أدمت الشدة بترك الصبر، إلهي أنت الكريم ولا يكون من الكريم إلا الكرم".

البلاء آتيك آتيك ولكن هناك فرقٌ بين أن تعيش هذه المعاني التي تبعث فيك الاطمئنان وبين ألا تعيش هذه المعاني فتكون عن الألم متذمراً، ولن يأتي هذا التذمر بشيء، بل بالعكس سيزيد الألم ألماً وسيزيد البلاء بلاءاً، لذلك شبّه أحد الصالحين هذه المعاني وأنت ترتادها وتراودها وهي تراودك وترتادك كالمخدّر الذي يقوم به طبيب التخدير وهو يجري لك العملية، لو أنه لم يخدِّرك لأحسست بالألم، هذا المخدّر يساعدك على أن تجرى لك العملية وأنت لا تشعر إلا بما ستسفر عنه هذه العملية من صحة إن شاء الله، لأن وراء كل محنة منحة، اصبر فستنال. حتى في حال البلاء كن مطمئناً وإياك وكثرة الشكوى، لا تشكو إلا لربك، بينك وبين ربك، لا يحب الله من عبده أن يشكوه إلى عبدٍ آخر وإنما ارفع يديك دائماً بينك وبين ربك وقل: إلهي أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين يا رب المستضعفين يا إلهنا يا رجانا:

إن جَـلَّ خَطبٌ قُم له سحراً           ونادِه بعظيم لطفك يا هو

       نـادِ الإلـه بمقلةٍ فياضة         ما خـاب وايم الحق من ناجاه

نحن نريد من يصبر ويرضى عند الابتلاء، نحن نريد من يتخذ الأسباب كافة ثم بعد ذلك يعيش التسليم والرضى بمسبب الأسباب بالله عز وجل، أكرر ما قلته مراراً: لا بد لك حينما تريد أن تُبدع من أن تستقر نفسك ، واستقرار النفس في حال الرخاء وفي حال الشدة وفي حال السراء وفي حال الضراء لا بدَّ له وأنت تريد لإنسانيتك أن تكتمل وقدوتنا في هذا وأسوتنا في هذا سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فيا أيها الناس، يا أيها المُبْتَلون وكلنا أصحاب ابتلاء إن هنا أو هناك، نقول لكم: هيا إلى فهم هذه الابتلاءات على الصيغة التي ذكرناها على الصيغة العطائية وانتم تنظرون أمامكم أعظم إنسان على هذه البسيطة تنظرون محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.

بقي أخيراً أن أقول الموقف الخاشع:

الابتلاء يعلمك دائماً الالتجاء إلى الله، تُبتلى من أجل ألا تنسى ضرورة عبوديتك، وضرورة عبوديتك التجاءٌ إلى الله، التجاءٌ قلبي التجاءٌ داخلي، يقول سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث حسن يرويه ابن أبي الدنيا وسواه: (من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله), لذلك يقول ابن عطاء الله: "العارف لا يزول اضطراره ولا يكون مع غير الله قراره واستقراره". أنت تستقر مع غير الله هذا الذي تستقر معه وهو غير الله هو يحتاج إلى استقرار، استقرَّ مع الصمد مع الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، استقر مع الذي كل شيء هالك إلا وجهه، استقر مع الذي لا يموت، استقر مع الذي خلقك مع الذي صنعك وإياك أن يرى الله في قلبك استقراراً مع سواه، إياك أن تستقر مع زعيم، أن تستقر مع رئيس أن تستقر مع مدير في قلبك، اتخذ مع الرئيس مع الزعيم مع المدير الأسباب المشروعة، وأضع خطاً تحت كلمة الأسباب المشروعة، ولا نريد علاقة مع غير الله بطرقٍ غير مشروعة، إياك والأكثر من ذلك، إياك أن يكون مع هذا الرجل الزعيم الرئيس الكبير المسؤول استقرار قلبك، فقلبك يجب ألا يستقر إلا مع ربك، مع الذي خلقه مع الذي يسكنه مع الذي يعرفه مع من هو مطلعٌ عليك مع الذي هو أقرب إليك منك أنت: ﴿ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾.

العارف لا يزول اضطراره ولا يكون مع غير الله قراره واستقراره، عش حالة الاضطرار في كل الأحوال في حالة الابتلاء وفي حالة الرخاء، عش حالة الاضطرار في كل الأحوال التي تكون فيها أنت فالحالة المُسعدة الوحيدة ليست حالة المال وليست حالة الصحة وإنما الحالة المُسعدة الوحيدة هي أن يكون الله راضياً عنك.

يا أخي أما نستحي حينما نستقر ونحن نسمع اسمنا يُذكر على شفة مسؤول، لو أني أخبرتك كما قلت مرة في اللطائف القرآنية أن الرئيس الفلاني، أن الضابط الفلاني يذكرك حدثني بربك عن حالة تعيشها آنذاك، ستعيش حالة الفرح والسرور والاستقرار والاطمئنان والحب والراحة، وستخبر زوجتك وولدك وكل من حولك بهذا وستكون على الدوام فرحاً، أما تستحي عندما تقوم بكل هذا ثم بعد ذلك حيال ذكر الله لك، الله يعلمك لئن كنت تفرح حينما يقول أحد المسؤولين الكبار أنه يعرفك، حينما أنقل لك لقد كنتُ مع الرئيس الفلاني مع الوزير الفلاني فذكرت اسمك فقال الرئيس هذا بأنه يعرفك. ستفرح. أما تستحي حينما تفرح هنا ولا تفرح حينما يعرفك رب الأرباب، وحينما يذكرك رب الأرباب ؟ ولقد ذكرك، أوليس هو الذي خلقك، وخلقه لك ذكرٌ لك وتشريفٌ لك: ﴿فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون﴾. فاذكروني لأنني ذكرتكم قبل أن آمركم بأن تذكروني ذكرتكم إذ خلقتكم، الله يذكرك، أما نستحي يا إخوتي ؟

نحن بحاجة من أجل أن نستقر وكلنا يعيش حالة قلق، نحن بحاجة إلى أن يستقر قلبنا مع الله، إلى ألا يزول اضطرارنا إليه وإلى ألا يكون مع غيره قرارنا واستقرارنا.

يا طلاب، يا من بلغ من السن خمسة أعوام وعشرة أعوام وعشرين سنة وخمسين سنة ومئة سنة، يا كل هؤلاء الناس هذه القضية قضية عامة.

فاللهم بحق العارفين الذين لم يَزُل اضطرارهم إليك، والذين لم يكن مع غيرك استقرارهم وقرارهم، اللهم بحق هؤلاء اجعلنا ممن يطمئنون إليك في كل الأحوال، في حالة السخط وفي حالة الرضى، في حالة الرخاء وفي حالة الشدة، في حالة السراء وفي حالة الضراء, اللهم وجه قلوبنا إليك واجعل اعتمادنا عليك، اللهم لا تجعل استقرارنا وقرارنا إلا معك، يا رب العباد، يا إلهنا يا رجانا يا مولانا يا نعم المولى ويا نعم النصير، استجب ذلك لنا، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 10/7/2009

التعليقات

شاركنا بتعليق